قواسم مشتركة بين المؤمنين بالفكر القومي والكافرين به

TT

عندما فتحت يوم الأحد الماضي بريدي الإلكتروني، هزني حجم الرسائل الخاصة بمقالة «استيراد النهايات»، الذي حاولت أن أبين فيه أن فشلنا في مشروع القومية العربية يعود بالأساس إلى أساليب التعاطي العربي معه، حيث لاقى التمعش عند بعض الأنظمة العربية، واستعمل كذريعة تضليلية عند أنظمة عربية أخرى. إضافة إلى خضوعه لعمليات توظيف ظرفي وكاذب وعمليات إقصاء ماكرة، وهو ما جعل الكثير من العرب اليوم ينتقم من كل هذه العمليات، بوصف المشروع القومي العربي، بنعوت بالغة السوء. ولا أنكر أن «الجدل الإلكتروني» حول الفكر القومي قد أرضى قليلا من قناعاتي، إذ تمكنت القومية العربية أن تحرك فينا القلم، على الاقل، وأن تجعلنا نجتمع حتى ولو كان مردّ الاجتماع اختلافا، إذ برهن الفكر القومي على أنه على قيد الحياة، وما زال يثير الجدل ويصلح كي يكون مادة حية للكتابة وخاصة لفتح فرص جديدة لتقييم الفكر القومي وإعادة النظر فيه.

واللافت للتفكير عند قراءة أو الاستماع لوجهات نظر عديدة حول القومية العربية، هو أن الكافر بالقومية يجتمع مع المؤمن بها في أكثر من قاسم مشترك. وكلاهما عاش قصة رهان وإيمان وحب مع هذه القومية، ولأن نهايات قصص الحب ليست متماثلة أو حتى متشابهة، فإنه يحدث أن ينتقل العاشق إلى رافض للمعشوق، وأن يصبح المؤمن فردا من أهل الردة.

كما يحدث أيضا أن نلتقي بمخلصين في الحب، سواء وجدوا أنفسهم في السراء أو في الضراء، وكم تشبه قصص الحب الفاشلة والناجحة قصصنا نحن العرب مع القومية العربية!

من جهتي، أرى أنه إذا ما حل إفلاس ما بأي أمة، فما عليها إلا أن تمنع ذلك الإفلاس من أن يفرخ لها إفلاسا أكثر تجويعا وفاقة. وكي يتحقق المانع لابد من تحديد الجيوب الحقيقية المفلسة دون أن نزيد الإفلاس إفلاسا. وأظن أنه لا شيء أقسى على الأمم من أن تفرط في مشاريعها وأن تقبل العيش في فوضى تخلو من أي آيديولوجيا تجمع الأفراد أو تفرقهم.

ومثل القومية العربية، كمثل امرأة كلما ضاقت على رجلها الأيام ودار عليه الدهر وأسياده الأقوياء عاد ليصب جام ضعفه وفشله عليها!

ومن الآراء التي سعدت بالعثور عليها في بريدي الالكتروني تلك التي ذهبت إلى اعتبار العروبة السياسية، وهما وخيالا افتراضيا، وهو كلام مقبول إذ ما تم إدراجه في سياق غير السياق الذي ورد فيه، ذلك أن اعتبار مشروع العروبة السياسية مشروع كلام وليس مشروع وعي ـ وذلك بالضبط ما ذكرته في مقالتي - يمثل مربط وجوهر مأزق مشروع القومية العربية، إذ بقيت فكرا في الرؤوس ولم تلق التبلور الأمين والتنفيذ الصادق والحقيقي. والمشكلة هو أنه تبعا للاعتداءات التطبيقية والفعلية التي تعرض لها مشروع القومية العربية، فقد أصبنا بحالة خلط بين مبادئ الفكر القومي وطموحاته ووعيه الثقافي والاقتصادي والسياسي، وبين الصور الواقعية التي التقطت، والتي هي أقرب إلى القومية المشوهة منها إلى القومية الحقيقية، إن الاستجابة لأي فكر ما بشكل مشوّه ويعتمد التزييف، من الطبيعي جدا أن يقودنا لعوائق تتعلق بممارساتنا للمشاريع وللأفكار، وليس إلى المشاريع ذاتها. أما فيما يتعلق بكون الدعوة إلى نهاية الفكر القومي العربي، سيئة التوقيت، فإن هذا الوصف يستمد حججه من اعتبارات آنية جديدة.

والاشتراك في اللغة وفي الدين، ليس هدف المشروع القومي بل هما أرضية قوية وخصبة، يفتقر إليها الاتحاد الأوروبي مثلا. ولم يظهر مشروع القومية العربية لتحصيل ما هو حاصل، بل للاستفادة من المتحصل عليه ثقافيا، وذلك من أجل توفير ما هو مفقود، وهو التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي في زمن تشابكت فيه كل المجالات. لذلك فالقومية بالمعنى العربي هي ضرورة حيوية تقتضيها المصلحة المشتركة والمتغيرات الدولية أكثر من ذي قبل. وأوروبا كمنتمية كبيرة إلى الحداثة وإلى الثقافة الغربية، وعت ضرورة التكتل والاتحاد، وها هي رغم الفروقات الثقافية اللغوية ورغم المروق السياسي لبعض دولها فإنها تجاهد من أجل تطوير قيم الوحدة السياسية ومنع التصادم بين دول اتحادها.

إن كافة أشكال التكتل مستهدفة اليوم من قبل أمريكا، التي ترى في تفرقة القوى سدا منيعا لهيمنتها، الشيء الذي جعل الفيلسوف الأمريكي رورتي ينبه أوروبا من خطر ارتكاب خطأ وصفه بالمخيف، إن هي استجابت لنيات أمريكا في تجزئتها من خلال ممارسة الهيمنة عليها. كما لا ننسى أنه لو كان تطبيق مشروع القومية العربية على الشاكلة الصحيحة، يمثل منجم شر للأمة العربية، لأرغمنا على المضي فيه قدما كما نحن اليوم، بصدد الإرغام على استيراد خرائط جاهزة للطرق الملتوية، ووصفات خاصة بديموقراطية مخصوصة. ويجب أيضا ألا ننسى أن إجهاض مشروع القومية العربية لمرات متتالية كان من أهدافه القضاء على خصوبته وخلق حالة كفر إزاءه، إذ أن المشروع القومي يتناقض وضرورات سياسة «فرق تسد». وإذا كانت اوروبا وهي ما هي، قد كدست وما تزال أمامها الولايات المتحدة، العوائق كي تحبط سير الاتحاد الأوروبي وتطوره، فإنه لا يوجد لدى أكبر قوة في العالم أمر أسهل من تثبيت حالة التشتت العربي التي بانت عوراتها مع أزمة الخليج الأولى.

وإذا أردنا أن نكون أكثر صراحة، فإن المأزق الذي ألمّ بمشروع القومية العربية هو مأزق وجداني في أغلبه، إذ بعد غزو الكويت استفاق المؤمنون بالقومية العربية على معطيات جديدة تعاملوا معها على أنها حقائق جديدة، وعلى ضوئها بدأ يسود الكفر القومي، الذي مسّ حتى القضية الفلسطينية، قضيتنا المقدسة. لذلك فإن ما أطاح بالمشروع القومي وقاده إلى كل هذا الاغتيال هو تلك الزوبعة الصاخبة التي ألمت بأكثر من وجدان عربي والتي انتهت به إلى قرار بتر وجدانه عن الوجدان العربي ككل. هذا مع العلم أن فرضية التآمر الإسرائيلي على القومية العربية، فرضية قابلة للإنصات وللتبني بصفة جزئية. وعلى البعض أن يراجع موقفه من فرضية التآمر لأنها فرضية تاريخية وميكانيزم عتيق لم يغادر الحياة الانسانية منذ أن تشكلنا على هيئة جماعات وقبائل ودول وشعوب. لذلك فإن الرفض المطلق لهذه النظرية هو خطأ تاريخي لا يمنحنا أية شمعة من شموع الحقيقة. إن المطلوب اليوم هو أن يصبح مشروع القومية العربية في تطبيقاته المخلصة لمقولات المشروع، صوت العقل والعقلانية والوعي، وليس صدى للوجدان فقط، خاصة أنه ما إن عاش الوجدان أزمة في حرب الخليج الأولى حتى سقط كل ما كان يمكن أن يبدأ أو يواصل. وكل مشروع إذا ما أسأنا التعامل معه والتفطن إلى آلياته المطلوبة، فانه يضيع بين الأزمة والحسابات الضيقة، والميول السياسية الشاذة، ولأننا شتات متبعثر كيفما اتفق، فقد كان من السهل الضغط والاجهاز علينا وكأننا فئران حاصرتها قطط لها هيئة النمور.

أما محاولة استبدال قيم الديموقراطية والحداثة واحترام حقوق الانسان بمشروع القومية العربية، فهي محاولة تطرح أكثر من سؤال، وأولها هل أن مشروع القومية العربية يتعارض وهذه القيم؟

إن الديموقراطية مصلحتنا التي لا خلاف حولها، وتحكيم القانون شرط لا مناص منه، وهي مستلزمات لا تتنافر لا من بعيد ولا من قريب مع القومية العربية في أبعادها الاتحادية والتكتلية، اللهم إذا كانت القومية العربية في بعض القواميس المجهولة مرادفا للديكتاتورية والمحسوبية ومركزية حكم الفرد الواحد وعدم الفصل بين السلطات.

لذلك، فإن مشروع القومية العربية ليس حقارة من الحقارات القديمة كما قد يوصف، بل هو مصلحة حيوية نفعية مورست ضدها اساءات.

ويتساءل البعض أيضا، لماذا لا تنهض مصر مصرية والعراق عراقيا دون الهرولة وراء سراب. أظن أننا قد هرولنا وراء مصلحة حقيقية، ولكن بأدوات هي أقرب ما تكون إلى السراب. وبين هذا وذاك سرابان بعيدان جدا، مع العلم أن خيارات المصرنة والجزأرة والسعودة والتونسة والمغربة والتكويت وغيرها، هي خيارات قائمة الذات منذ أن تحصلت كل دولة عربية على استقلالها، بل هي من البديهيات بشرط أن لا تخضع إلى منطق انعزالي وذلك لسبب واحد، وهو أنّ هذه الانعزالية مستحيلة في الماضي والحاضر والمستقبل. مع الإشارة إلى أن الخيارات المذكورة والتي تعد شرط بناء دول وطنية، تلقى بدورها تشويهات كثيرة في تطبيقها، لذلك فإن الإشكال العربي يكمن في كيفية الاستجابة للمشاريع مهما كانت وليس في المشاريع ذاتها.

[email protected]