قرنق يسطع كداعية للوحدة والوفاق .. فهل تعبر الحكومة «مقرن النيلين»؟

TT

على مدى الثلاثة أسابيع الفائتة، وحتى اليوم، ظل جون قرنق رئيس الحركة الشعبية يحصد مكاسب متواصلة، إن بالنسبة للقوى السياسية السودانية أو النطاق الديبلوماسي الدولي، بينما تواجه الحكومة تلك المكتسبات بردود فعل غاضبة ومنفلتة تزيدها عزلة وضعفاً، سواء أمام القوى السودانية أو إزاء مفاوضات السلام مع الحركة التي تدار من كينيا برعاية أمريكية، وعلى المستوى الأوروبي أيضاً.

وفي الحادي والعشرين من مايو (أيار) الماضي، كتب قرنق رسالة إلى مجلس الكنائس برفض المشاركة في مؤتمر دعت له قيادات جنوبية مختلفة في الخامس والعشرين من ذات الشهر في كمبالا، معترضاً على المبررات ومطالباً بعدم الخلط بين الدين والسياسة، وترتب على ذلك إلغاء أو تأجيل المؤتمر! واتبع ذلك الإلغاء بالتوجه إلى القاهرة، حيث اصدر مع الميرغني والمهدي ما سمي بإعلان القاهرة الذي اشتمل على اتفاق الزعماء الثلاثة على أسس لمبادئ الحكم وآلياته في الفترة الانتقالية، وعزز مطلب أهل الجنوب باعتبار الخرطوم عاصمة تساوي بين الأديان والمعتقدات كافة للحفاظ على الوحدة.

وكذلك ما إن حط رحاله في لندن حتى وقع مع المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور الترابي اتفاقاً حول قضايا السلام والتحول الديمقراطي يكاد يكون مطابقاً لإعلان القاهرة، خاصة في شأن النظام التشريعي والقانوني، حيث نص على أن تعتمد الفترة الانتقالية على الاجماع الوطني قاعدة للتشريع كما هو قاعدة للسياسات، بما يساهم في درء مفسدة الحرب، وبما يقدم مثالا لعاصمة قومية واحدة تجعل وحدة السودان خياراً غالباً عند الاستفتاء على تقرير المصير، والقرار من بعد للشعب السوداني في اختيار دستوره الدائم في ظل نظام ديمقراطي.

لا شك أن هذين الاتفاقين اديا إلى سطوع قرنق كداعية للوحدة والسلام ونصير قوي للإجماع الوطني، خاصة أن كل القوى السياسية الأخرى قد باركت وأيدت هذين الاتفاقين باستثناء «الاخوان المسلمين»، والحكومة، وهما بكل المقاييس لا يمثلان إلا أقلية، وبالرغم من ذلك فإن ردود الحكومة اتسمت بالتقوقع والعودة إلى أسلوب التراشق بالكلمات وبالعنف ايضا.

فهي لم تكتف برفض إعلان القاهرة ومهاجمة الزعماء الثلاثة، إنما اعتبرت قرنق يتهرب من اتفاق السلام وصرحت بأنها قد شكته إلى الوسيط الكيني الذي يزور السودان الآن!، وهددت بتبني دعوة لمشاركة فصائل جنوبية أخرى للمشاركة في المفاوضات وهو أمر يقدح في حقها لأنها ترفض مشاركة القوى الشمالية الأخرى في المفاوضات، مما يعد تناقضاً في موقفها، وهل من المتوقع ان تؤيد فصائل جنوبية أخرى مطلب الحكومة في تطبيق الشريعة في العاصمة؟، على الأرجح ان الفصائل المناوئة لقرنق مطلبها هو الانفصال، وهي بالتالي ليست حريصة على الكيفية التي ستحكم بها الخرطوم؟!

وبالنسبة إلى موقف الحكومة من اتفاق قرنق مع جماعة الترابي في لندن، والداعم لاتفاق القاهرة، فقد تجاوز كل الحدود لأنه ليس بوسعهم مجادلة شيخهم، فاتجهوا إلى إطلاق التصريحات بأنهم طلبوا من البوليس الدولي الانتربول إلقاء القبض على النائب الأول للترابي الدكتور علي الحاج مع مجموعة من قياديي التمرد الجديد في دارفور تحت طائلة ارتكاب جرائم جنائية، وهم بذلك قطعاً يزيدون الطين بلة، لأن المأمول كان أن تسعى الحكومة للتهدئة والتفاهم مع قيادة حركة دارفور وغيرهم حول الأسباب السياسية للنزاع عوضاً عن تصعيده وتحويله إلى جرائم جنائية تزيد من تفاقم الوضع وتعقيداته!

وكأن كل هذه التوترات لم تجعل الحكومة تتنبه إلى ما يدور فيها وحولها للتخفيف من بؤر المشاكل مما دفعها الى فرقعة اضافية بهدمها مناطق سكن عشوائي في أطراف العاصمة مما أدى إلى تشريد أكثر من ثلاثين ألف إنسان بعد صدامات أدت إلى مقتل ثمانية اشخاص واصابة عدد بجراح وهؤلاء غالبيتهم من غرب السودان، حيث انبرى الحزب القومي الذي يتزعمه القس فيلب غبوش الى اتهام الحكومة باستهداف ابناء جبال النوبة أينما كانوا من خلال ما أسماه بعمليات تطهير عرقي في الجبال وتضييق وقمع في المناطق الأخرى!

وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة بكل الطرق لاسترضاء الولايات المتحدة وتتعاون معها إلى أبعد الحدود في مكافحة الإرهاب وفي الترتيبات التي تقوم بها لتأمين اوضاعها في القرن الافريقي، تتوتر العلاقات فجأة مع نائب مدير هيئة المعونة الأمريكية في الخرطوم، بمنعه من زيارة منطقة في جنوب غربي البلاد لحضور مؤتمر يعقد هناك برعاية الأمم المتحدة، مما دعاه ليصف ذلك التصرف بأنه غير موفق وليس مبرراً، وهدد بتحويل معونات إنسانية من السودان إلى اثيوبيا بعدما تحفظت السلطات عن دخولها لأسباب تتعلق بمواصفاتها!

تحدث كل هذه التطورات المتلاحقة غير الموفقة في الوقت الذي يحظى فيه قرنق باستقبال حافل من الإدارة الأمريكية وترحيب من كولن باول بإعلان القاهرة وتشجيع على الاستمرار في العمل من أجل الإجماع الوطني، كذلك الترحيب الذي وجده في لندن فضلا عن الإنجاز المتمثل في تطوير الاتفاق مع المؤتمر الوطني الذي يتزعمه الترابي.

حقاً، وصدقاً، أن على الحكومة أن تقرأ كل هذه التطورات قراءة جديدة وجدية بمعنى أن كل ردود فعلها تباعد بينها وبين الإجماع الوطني، وأنها أخذت تخسر كل المكتسبات التي حاولت البناء عليها من أنها تسعى للسلام وأنها تفتح صدرها للوفاق والوئام وأنها مقبلة فعلا على بسط الحريات والقبول بمبدأ تداول السلطة، وعليها عوضاً عن أن تنظر إلى ما أنجزه قرنق بهذا الصدد وهذا الرفض، ان تتسامى لتتجاوزه بتقديم ما هو افضل منه، خاصة انها تملك مفاتيح الانفتاح الضرورية والأساسية، وما لم تفعل فإنها لن تعاني من العزلة فحسب، وإنما ستفقد القليل مما كسبته من قبول من مختلف الشرائح السياسية السودانية، وكذلك من القوى الخارجية.

ليس هناك أدنى معنى لأن تتمترس الحكومة وراء التمسك بوجوب تطبيق الشريعة في الخرطوم في الوقت الذي تجمع فيه كل القوى السياسية على ضرورة حكمها بالقوانين المدنية، حفاظاً على وحدة السودان، فإنها حتماً ستغرق في «المقرن» أي عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، تلك البقعة الجميلة في قلب الخرطوم التي فيها يتم توحدهما مثلما يحرص الجميع على وحدة السودان، وعسى أن تلحق الحكومة بالركب وهي بذلك تتدارك الكثير مما فاتها ومما هو آت!

ولا ينبغي أن تتلكأ أكثر مما تلكأت في هذا الأمر وإنما المرتجى منها أن تتجاوز كل ما سطع به قرنق كداعية للوفاق والاجماع الوطني فتعلن عن مواقف وخطوات تفتح الطريق معبداً لتحقيق السلام والوفاق، ومن ذلك أن تتبنى هي المبادرة بدعوة الجميع لمؤتمر دستوري قومي وتشكيل حكومة قومية وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وبسط الحريات ودعوة الجميع للمشاركة في مفاوضات السلام مع الترحيب بما صدر في القاهرة ولندن.

ان خطوة كبيرة من هذا العيار وحدها هي الكفيلة بتغيير الصورة تماما، ونقلها من حالة الانغلاق وردود الفعل السالبة الى حصن يحتضن الوطن كله بمختلف شرائحه وألوان طيفه ويخمد كل البؤر التي اخذت تطل اخيرا وتنهش في ما تبقى من جسم البلاد المنهك، فهل يفعلها الرئيس البشير فيتجاوز عزلة النظام، ومن ثم يتخطى السودان مأزقه الكبير ويمضي في الطريق السليم؟