عندهم.. وعندنا

TT

لم يكن السؤال ما اذا كانت الاستقالة ستحدث، بل: متى تعلن، وكم من كبار المسؤولين سيتوارى خجلا؟ هذا حديث لا يخصنا في العالم العربي. السبب؟ لأننا لا نعرف شيئا اسمه استقالة الاعتراف بالخطأ. ولا حتى استقالة الاعتراف بالشيخوخة وتراجع المقدرة. ربما نسمع احيانا عن الاستقالة، أما ان نمارسها، فكلا ثم كلا، واذا حصل فمن النادر جدا، جدا، جدا، عيب يا رجال، لأن الجد الجد عندنا هو ان الاعتراف بسوء التقدير... ومن ثم تحمل مسؤولية الخطأ بالانسحاب من الساحة، انما هو «وباء» يقاوم على نحو أشد من مقاومة طواعين هذا الزمن على اختلاف اشكالها ومسمياتها!

قبل بضعة أسابيع (الأحد 11 مايو الماضي) قررت «نيويورك تايمز» الجلوس على كرسي الاعتراف. هناك في ركن فخم من صفحتها الأولى، أعلنت الديناصور بحروف ساطعة كشمس صحراء العرب: اني مذنبة!

ما الجديد؟ سيسأل أحدهم، أو قد تسأل احداهن، في ارض عربية تمور غضبا وسخطا ضد اميركا، فتصب عليها اللعنات صباحا ومساء، آناء الليل وأطراف النهار. وربما يستطرد السؤال فيشرح: بالنسبة لنا، كل ما يمت لأميركا مذنب أولا وثانيا وثالثا، وليس «نيويورك تايمز» وحدها.

الجديد هو ان «نيويورك تايمز» كانت تعترف بذنبها تجاه قارئها، ايا كان، وفي أي مكان. كانت تبدو مثل سيدة وقور، روّعها ان تكتشف كذب أحد ابنائها، فأمسكت بطرف منديلها الأبيض تواري دمعة خجل.

والواقع ان حجم الكذب يستحق كل هذا الشعور بالذنب. لقد مد صحافي في مقتبل العمر، سنا ومهنة، يدعى جيسون بلير حبلا طويلا نشر عليه اكثر من سبعمائة قصة ليتبين في ما بعد انه حبل كذب من أوله الى حيث وصل به. حصل هذا في صحيفة تتباهى بالمبالغة في التدقيق، وفي تحري الدقة. كتب بلير قصصا تنقل خلالها من تغطية ما بعد هجمات 11 سبتمبر، الى مسلسل القناص، الى متابعة حرب العراق من داخل الولايات المتحدة. في بعض قصصه روى بلير كيف انهار اشخاص تحدث اليهم فسالت دموعهم انهارا، ثم تبين ان احدا منهم لم يبك في حياته ابدا.

كانت الصدمة قاسية للصحيفة. ويوم اعتراف «نيويورك تايمز» بما حدث، قيل ان فعلة بلير هذه تشكل أسوأ نقطة في تاريخ يبلغ من العمر مائة واثنين وخمسين عاما. ادارة التحرير اعلنت من كرسي الاعتراف انها شكلت لجنة من خمسة محررين كبار، يعاونهم سبعة محررين اخرين، لاعادة التدقيق في كل قصة كتبها بلير.

ولم يكن هذا كافيا. فمنذ ذلك الأحد الذي صدرت فيه «نيويورك تايمز» مجللة ببيان الاعتراف، قيل ان رؤوسا كبيرة يجب ان تنحني وتغادر البيت حتى تستعيد السيدة وقارها. وهو ما حصل الخميس الماضي. أحنى كل من هاويل رينز، وجيرالد بويد، رأسه.. وغادرا. الأول، هو الرئيس التنفيذي للتحرير. الثاني هو مدير التحرير. الاثنان يعترف لهما زملاؤهما في المهنة بانهما من قماشة مهنية متميزة، فهما غزيرا الطاقة والعطاء، شديدا الدقة والمتابعة، وكلاهما في قمة النجاح. فهل تستحق فاحشة بلير ان يستقيلا؟ بالضبط. بل لأنها فاحشة بذلك الحجم، ولأنهما ناجحان بتلك الدرجة، كان يجب ان يستقيلا.

هكذا يفعل الذين يحترمون الحقيقة. والكبار حقا هم الذين يدركون حجم مسؤولية مناصبهم فيسارعون الى هجرها اذا ما خدشت هيبتها. يحدث هذا عندهم. اما عندنا، فيختلف الأمر قليلا، او كثيرا، حسب الظروف. أحيانا، تدمر البلاد وتزهق ارواح العباد، فاذا سأل احدنا: ماذا عن المتسبب، لماذا لا يستقيل؟ أجابوك: ما هذه المسخرة! ثم تأتي الاستخبارات وتكمل بقية الجواب وفق أصول العقاب. وليست المسألة حكرا على طبقة معينة، فما بين الماء والماء لا يستقيل المسؤول بل يقال. الا في حالات نادرة. وماذا عن صحافتنا؟ يا للهول، عيب يا رجال. الصحافي الحقيقي هو المتمترس في المهنة، من المهد الى اللحد. ما اشطر صحافتنا في النق على الساسة، وما اسرع معظمنا في الركض اذا نق أحد علينا. اما اذا قلت لأحدهم: ألا تترجل يا رجل؟ فابشر ببئس المصير.

عندما تدركنا شجاعة الاعتراف بالحقيقة، سيحدث عندنا شيء مما يحدث عندهم، كأن نتوقف عن خداع الذات. عندها نعرف طريقنا من دون ان تفرض علينا خرائط، لا من أميركا ولا من غيرها!

[email protected]