المفرغ والمحشي

TT

كان مقعدي خلال العشاء الى جانب سيدة متقدمة في العمر، من النوع الذي يخيل اليك انه لم يعد يفعل شيئا في الحياة سوى زيارة الاحفاد في العطل والاعياد، او استقبالهم. ولكن يأتيك بالاخبار من لم تزود. والجدة العزيزة زوجة رئيس بلدية هذه المدينة الفرنسية القريبة من باريس، بقصورها وحدائقها وساحة البلدية ولوحاتها الحجرية التي كتبت عليها اسماء مواطنيها الذين قضوا في الحربين العالميتين، في النزاع مع الالمان. كنت الى يسار السيدة المولودة في اليونان، اما الى اليمين فكان يجلس رجل الماني دون الخمسين، لم يعرف شيئا عن الحرب والعداء. فيوم كان يافعا كان ديغول واديناور يعقدان اشهر صلح في تاريخ اوروبا.

آه، المفاجئ في الامر ان الجدة لن تحدثني عن زيارة الاحفاد. اذن؟ عن الازمة الفرنسية ـ الاميركية؟ نعم. ولكن في شكل عابر: «لا تستطيع الدولتان الاختلاف طويلا». ماذا عن النزاع العربي ـ الاسرائيلي؟ ايضا باختصار. فهي لا تطيق مشهد الاطفال الفلسطينيين يقتلون في الشوارع كل يوم. لكن ما دام جارها في هذا الحفل صحافيا عربيا، فهي تريد التحدث عن الفضائيات العربية. لم اصدق. لكن السهرة انتهت ونحن لم نتفق على شيء بعد. اي انا وهذه الجدة الفرنسية التي خيل اليّ انها لا تعرف اين يقع العالم العربي. او هي لم تعد تسمع به منذ ان غادرت جارتنا اليونان للزواج من السيد رئيس البلدية. يأتيك بالاخبار من لم تزود.

الفضائيات العربية، تقول الجدة، هي التي تشعل الحرب العالمية الثالثة: «ارجو ان تفهمني جيدا. لقد قاتل زوجي الالمان في الحرب العالمية الثانية لانهم كانوا يحتلون مدننا. اما الآن فالمسلمون يشكلون الديانة الثانية في فرنسا. وكل الاعمال التي يقوم بها ابنائي في الداخل والخارج، قائمة على التجارة مع المسلمين، وهم لم يعرفوا مثلنا حرب الجزائر او اي صراعات اخرى. ولكن الفضائيات العربية تحرض المسلمين الفرنسيين والبريطانيين الذين ولدوا ونشأوا هنا، على اوطانهم الجديدة. وتحرضهم على مؤسساتنا المدنية. وتحاول ان تذكرهم دائما بانهم غرباء واعداء للارض التي هم عليها، كأنما لا يكفينا في ذلك تقصير النظام الاجتماعي او النفسيات العنصرية التي تعرقل الانصهار».

وقالت الجدة: «ان المسيو لوبن يعيش على مسافة قصيرة جدا منا. واولادي لا يلقون التحية عليه، لانهم لا يقبلون برجل عنصري يحرض على المسلمين والعرب. ولكن ماذا يشكل خطر المسيو لوبن بالمقارنة مع الصراخ الذي تبثه القنوات العربية كل يوم؟ ولماذا اوروبا؟ لماذا نحن؟ اذا كانت هناك قضية مع اميركا واسرائيل، فان لفرنسا ايضا قضية مع اميركا.

وهي لم تغلق بابها في وجه لاجئ سياسي عربي او خصوصا فلسطيني. لماذا اذن هذه التعبئة؟ هل هو نزق الاثارة التلفزيونية، ام ان هناك حملة منظمة؟ وفي مصلحة مَن؟ ماذا يمكن ان يتحقق اذا استمرت الفضائيات في دفع اوروبا نحو مناخ الحروب الاهلية؟ الاسلام ليس الديانة الثانية في فرنسا وبريطانيا فقط بل في بلد مثل الدانمارك ايضا. هل يراد للمسلمين ان يظلوا قوة خارجية معزولة داخل هذه البلدان، ام ان يتحولوا الى جزء حقيقي منها، كما هم مثلا البولونيون او البرتغاليون الذين هاجروا الى فرنسا، واصبحوا الآن نوابا ووزراء واساتذة واثرياء؟».

لم تتوقف الجدة عن الكلام. وكانت هذه اول مرة اسمع انسانا اوروبيا يثير موضوع الفضائيات العربية. وكنت اعتقد، حتى الآن، ان الصراخ والزعيق مجرد قضية عربية، وانه لا يتعدى كونه قضية ذوق ولياقة وادب، او انعدامها تماما في بعض الحالات، لكن هذه الجدة تحاول ان تفهمني بأن المسألة ابعد بكثير من مرضى الزعيق ومحبي الكلام المفرغ او المحشي. ان اوضاع الملايين من الناس تتوقف، للاسف الشديد، على نفخة في بوق.