العدل أصدق أنباء من الكتب

TT

أريد أن أكشف عن صفحة شخصية لم افتحها بعد لأحد. ما الذي جعلني اتخذ هذا الموقف الحاد ضد صدام حسين. طرحت شتى الاسباب لتبرير غزو العراق. ولكن كان لي بينها سبب شخصي يرتبط بمزاجي.

القشطينيون اسرة قضائية. اكثرنا مارس القضاء أو المحاماة أو تدريس القانون، أو على الاقل الدراسة في كلية الحقوق. انا واحد منهم. درست القانون ومارست المحاماة. ومن لم يتفرغ منا لدراسة وتدريس القانون، درسه عمليا في قضاء جل حياته في المحاكم. مدعيا أو مدعى عليه. ما عليك غير ان تطأ حذاء قشطيني حتى تجد نفسك في المحاكم لسنوات. وانا شخصيا خضت معركة قضائية لثلاث سنوات دمرت صحتي واستنزفت مالي وشوهت مسار حياتي من اجل مبلغ تافه اعتبرته من حقي. هذه جرثومة تجري في عروق كل قشطيني. جرثومة العدالة. انه الميدان الوحيد الذي ارفض فيه الرضوخ للواقع، واخرج عن ايماني بالواقعية.

لقد ارتكب صدام حسين جرائم يشمئز منها ضمير اي انسان. وشاركته في هذه الجرائم اسرة من المستهزئين بحقوق الناس واعراضهم. نجد حكومات كل الدول المتمدنة تنفق الملايين من أجل تعقب مجرم واحد لالقاء القبض عليه وسوقه للقضاء ومعاقبته. ثم تنفق على سجنه سنويا ألوف الجنيهات في اطعامه وحراسته والسهر على صحته. اقامة العدالة وردع الخارجين عن القانون اساس أولي للمجتمع السليم. العدل اساس الملك.

كيف نسمح لرجل يقوم بما قام به صدام حسين واهله واصحابه ان يستمر في الاستمتاع بغنائمه ونهبه واستهتاره؟ كنت كلما أراه على التلفزيون يضحك وينتشي ويشمخ بنفسه بعد ان يكون قد أمر بقتل بضع عشرات من الابرياء، اشعر بدم القضاء يغلي في عروقي. اصبحت اطاحته من منصبه واحالته للعدالة هوسا في نفسي. اصبحت مستعدا لأن ارى ألوف العراقيين يموتون وتخرب بيوتهم ومدنهم من أجل القصاص منه عما فعله. انه نوع من الجنون. انها جرثومة العدالة التي تجري في عروقي. ليس من صالح الانسان ان نترك المستهترين بحياة الانسان يمضون في طريقهم، يسرحون ويمرحون وعلى عينك يا تاجر.

كان من رواد ديوان الكوفة بلندن، رجل كسيح، محدودب الظهر يمشي على عكازة، ولا يكاد يمشي. تساءلت عنه. فقالوا ولا تسأل. هذا الرجل عذبته مخابرات صدام بتعليقه في مروحة سقفية ظلت تدور به حتى انكسر ظهره، فاصيب بالشلل. اقتنعت السلطات بأنه كان بريئا وتأسفوا على ما حصل له. وكان في الواقع من المقربين للنظام والمؤيدين له. فعطفوا عليه وارسلوه الى لندن عسى ان يصلح العطار ما افسد الدهر.

عدت الى البيت وبقيت افكر بذلك الرجل الاديب، والكاتب على ما اعتقد. واحد من مئات. واحد من ألوف. كيف نسمح لمن يتسبب بهذه المآسي والجرائم ان يستمر ولا من يسأل ولا من يحاسب؟

هناك من دعوا للحرب بفكرة التخلص من اسلحة الدمار الشامل. هناك في اسرائيل من دعوا لها للتخلص من رجل يمول العمليات الفدائية ويؤوي الارهابيين. هناك من ايدوا الحرب لانقاذ الشعب العراقي. وهناك من رحبوا بها طمعا بالمناصب. بالنسبة لي كنت اشعر ذاتيا بأنها مسؤولية من مسؤوليات العدالة. هذه حفنة من المجرمين لا يجوز ان نسمح لهم بأن يفلتوا من الحساب، بل يواصلوا جرائمهم. اذا كان الامر كذلك وتطلب الامر خوض حرب عاتية، فليكن. بالنسبة لمن افترسته جرثومة العدالة، موت عشرة آلاف بريء خير من فلات واحد اثيم. معادلة جنونية؟ فلتكن!