تحية لماسحي الأحذية

TT

يجب أن نعترف بعد مكابرة وطول إجحاف بأن ماسح أحذية جوالا شغوفا بأن يجعل ما في رجلك يلمع كالمرآة، هو أجدر بالاحترام والتبجيل من مهندس مجرم، غشاش، يموت بسبب جشعه المئات، أو حتى من طبيب فاشل يدخل إلى غرفة العمليات بروح جزّار حين يهمّ بذبح الخراف. ولمّا كانت الرفعة في بلادنا تأتي من الألقاب والأنساب والأحساب لا مما يجيد صنعه الإنسان، فقد أصبح النصّاب والكذّاب يقابل بتعظيم سلام بينما تهدر كرامة الشريف بسبب فقره أو صدقه ورفضه الخداع. ولا عجب أن تمر الزلازل في اليابان كما الكابوس العابر أو المنام بينما يقضي أي زلزال عربي مشابه في القاهرة أو الجزائر على آلاف الأرواح، وكأنما الصفقات قضاء وقدر، والاختلاس سر من أسرار الاقتصاد الوطني المجيّر لصالح النفعي والانتهازي، الذي يكرر بوقاحة وهو يبني عماراته البسكوتية ان ليس بمقدوره الالتزام بشروط العمارة المضادة للزلازل لأنها مكلفة ولا تتحملها كواهل الناس، لذلك فهو يقدم لضحاياه علب كبريت بأسعار شقق آمنة، والباقي ليس في الحسبان.

وإذا كنت مواطناً شريفاً ومسلّماً بواقع الحال، لكنك تنتظر فرجاً تأتيك به السماء، فبإمكانك أن تتفاءل بتقرير هذا العام لمنظمة «الشفافية الدولية» ومقرها برلين، الذي بين أن مستوى الاختلاس في المنطقة العربية، بعد أن كان على درجات قياسية بحسابات ريختر، تدنى عن السنوات السابقة، وتضاءلت الصفقات والاختلاسات وسرقة العمولات التي يتورط فيها الوجهاء الرسميون والشركات الخاصة والمتعهدون والوكلاء، لا تعففاً وإنما لأنه لم يتبق في جيوب الناس شيء، ولا في جيب الدولة أيضاً، التي باتت مفلسة وعلى شفا هاوية، بعد أن سحبوا الأخضر منها وما يبس. هذا ما أعلنت عنه المنظمة التي لها مكاتب مراقبة ومتابعة ومصادر موثوقة.

لكن الفساد ليس مجرد آفة تعالج بقانون جديد أو برفع دعاوى قضائية، كما يقال لنا، فالتقرير نفسه يتحدث عن فساد القضاء الغارق في العطايا والهدايا، وقد صمت آذانه بالأوراق النقدية الخضراء. وأية مصادفة أن تلحظ رغم اختلاف القوانين والآليات وأنظمة الادارات أن الشعوب العربية تشابهت في قدرتها على احتمال التلوث المسلكي، وتساوت في معالجته بحبات الأسبرين وجرعات البندول بدل استئصاله بعمليات جراحية جذرية.

وكي تفهم بشكل أوضح سبب التسامح مع الوجهاء من المجرمين حين يستغلون مهنهم، يجدر بك أن تلحظ الظلم الواقع على البسطاء من المخلصين في عملهم، أو أن تترصد فظائع الاستغلال الذي يطال العمالة الآسيوية خاصة حين يتعلق الأمر بالنساء. فالحساب ليس على حسن العمل أو عدمه وإنما على تراتبيته في القاموس الاجتماعي شديد الطبقية. ولك أن تدعو السماء بأن لا تبتليك أو أحد أولادك بمهنة على اللائحة السوداء، فيسودّ وجهك وتتلوث سمعتك ولو كنت نبيلاً نقيا، ولتكن رعاك الله من الفئة المدللة، المغفورة ذنوبها، المتوارية جناياتها خلف الكرش المتورم وأبخرة التبغ الغليونية المتصاعدة التي تصعد بك إلى ذرى التباهي والافتنان. ولكن تساءل لمرة: لماذا تجدنا شعوباً لا تجد عملاً وترتع في البطالة مع أن كل ما يلفنا بحاجة إلى كبير جهد وإصلاح؟ ولماذا يقبل واحدنا أن يجلي صحوناً، وهو في منتهى الحبور والسعادة، حين يكون في كندا بينما لا يقبل بأقل من وظيفة محترمة على أرض البلاد، ويبقى يشعر بالغبن وحتمية استخدام آخر نقطة نذالة في وصوليته كي يترقى حين يكون بين الأشقاء؟

والآفات واحدتها تجر الأخرى، فالعمل الجيد هو العمل المريح، الخفيف النظيف، الذي لا يستلزم كداً أو عرقا. رغم أن الناس كانوا يفتخرون بعرق الجبين وخشونة الأيدي وملابس الشغل التي كانت أثواب افتخار يرفع ببقعها العامل رأسه ورأس أولاده بين الأصدقاء والجيران. هذا الأب الذي صار اليوم راكباً مرسيدس، مطقماً، مهندماً، هاتفه دائماً على أذنه من شدة الانشغال، تفوح وراءه روائح العطور، ولا تعرف من أين يأتي بهذه الأموال. وبات المطلب الأثير هو المال الكثير مع العمل القليل، الذي يجرّ إلى احترام الكسول واحتقار الشغيل، وإعلاء شأن المتعجرف واستصغار المتواضع، وكأنما المقاييس انقلبت فجأة والمصارعة في الحلبة قائمة بين مافيات الفاسدين/المفسدين الذين يدوسون بأحذيتهم اللماعة كل ماسحي الأحذية الشرفاء منهم والأدنياء، رغم أنهم يدينون لهم بالشيء الوحيد النظيف البراق المتبقي لهم!

في الأنظمة المحترمة يحلّ الفلاح والنجار والزبال والأستاذ في مرتبة المحترمين، ويهان المختلس والمتطفل والكسول، أما حين يعمّ الهرج والمرج وتصير البهرجة مهنة والاحتيال حرفة والهبش شطارة والوصول مع الجهل مهارة، يصبح كل من لا يجيد التملق والتمليح والتبهير والتلفيق من صنف البلهاء. وكي لا نحصر الكلام في السياسيين واتباعهم من المتملقين، لك أن تصغي إلى المطربين الذين يحدثونك من الأغنية الثانية عن معاناتهم ومشوارهم المليء بالأشواك، والمذيعات اللواتي يحببن الثقافة ولا يفوتن على أنفسهن رواية، والشعراء الخائبين، المدعومين الذين لم يتركوا شاردة أو واردة إلا وقرأوها، حتى أن الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي حين تحلت بالشجاعة واعترفت صادقة، في إحدى المقابلات بعد أن نشرت روايتها الثانية، بأنها لا تقرأ الروايات ولا تعرف ما نشرته زميلتها حنان الشيخ، كان لاعترافها وقع أشبه بالفضيحة.

لقد تجرأت أحلام مستغانمي مشكورة وولجت باباً يخافه الكثيرون ممن يفضلون وهج الكذب الزائف على بريق الصدق القائم. لكن السؤال الذي يلح على الدماغ كمطرقة مجنونة: كم حجم الفضائح التي يمكن أن نكتشفها لو ابتلع عباقرتنا وموسرونا ووجهاؤنا الأكارم حبة الاعتراف اللذيذة المفعول، ووقعوا تحت تأثيرها لساعة واحدة فقط، وأراحونا بعدها من عناء مداهنة النفاق؟!

[email protected]