إنه سلام أعرج

TT

كلما فتحت جهاز التلفاز، اصابتني حالة من الاحباط المغلفة بالقلق والتوتر، من كثرة المآسي التي تحيط ببلداننا العربية والاسلامية، من اتساع رقعة التطرف الديني، الى تقلص رقعة التعبير وقمع الحريات، ومرورا بفجيعتنا المتمثلة في الاحتلال الامريكي للعراق والسيطرة على ثرواته وانتهاء بأزمتنا الكبرى المتمثلة في قضية فلسطين الشائكة، التي يعاني العرب جميعا من تبعاتها على مدى خمسين عاما، كأننا شعوب مغلوبة على امرها، محكوم عليها بقلة الراحة!

ومع كل هذا الكم من الوخزات التي تقض مضاجعنا، فنحن شعوب متهمة على طول الخط بانها تكره تطوير نفسها وتعرض عن العيش في هدوء مع غيرها من الشعوب، وتعادي السلام، وتحث على العنف، وتتلذذ بسفك الدماء، فهل هذه الصفات بالفعل لصيقة بالشخصية العربية، ام ان الفرد العربي يحمل عقدة الاضطهاد في اعماقه، نتيجة تجرعه كؤوس الذل والهوان على مدى عقود طويلة؟! هل انتقلت هذه العقدة بالوراثة الى الاجيال الصاعدة التي اصابتها هي الاخرى حالة من الانكسار النفسي؟! نعم.. ربما تكون الشعوب العربية قد تعرضت لأمراض نفسية عديدة، لكن الطبيب المعالج لا يلوم مريضه على تصرفاته قبل ان يضع يده على الدوافع التي اوصلت مريضه الى هذه الحالة، من خلال النبش في ماضيه، ودراسة الاحداث التي وقعت له ليتمكن من شفائه كليا.

هل ما يجري اليوم على الارض العربية، هو نتيجة اخطاء الآخرين تجاهنا، ام انه من صنع ايدينا؟! انظروا الى التاريخ العربي، ستجدونه حافلا بكمية الفواجع التي مرت بها امة العروبة، والتي تبين كم حاول العرب مرارا او تكرارا فتح نافذة على فناء المستقبل الواسع لكي يستنشقوا هواء نظيفا، ويتمكنوا من اللحاق بركب الامم المتقدمة، لكنهم كانوا دوما يتفاجأون بقذائف المكائد تنهال عليهم من الاتجاهات كافة لكي تقضي على مشاريعهم النهضوية، وتحد من طموحاتهم، لتجبرهم على التراجع واغلاق الابواب والتقوقع داخل حجراتهم! هذا للاسف ما آل اليه حال الشعوب العربية. وما ان تفكر في نفض غبار التخلف عن نفسها، حتى تجد من يتربص بها ليقضي على كل بارقة امل في ان تحيا بكرامة وان تتساوى مع غيرها من الامم المتحضرة وتقف معها في مقدمة الصفوف! وما يجري اليوم داخل فلسطين المحتلة، وما يحدث على ارض العراق من انتهاكات، جعلا الفرد العربي يقف ذاهلا، كأنه يشاهد فيلما من افلام «الأكشن» الامريكية، متقبلا على مضض الاتهامات التي تنصب فوق رأسه، من دون ان يملك القدرة على الدفاع عن نفسه بعد ان وصل الى اعلى حالات الوهن والاذلال والانكسار!

هل يجب إن تلجأ الشعوب العربية الى اسلوب السمع والطاعة، لكي تنفي عن نفسها هذه التهم؟! وماذا عن مشاعرها الوطنية؟! عن سيادتها المنتهكة؟! عن اراضيها المغتصبة؟! عن هويتها الضائعة؟! عن عروبتها الممزقة؟! هل اصبحت جميعها من شعارات الماضي الجميل كما يرى البعض؟! هل ان الواجب يحتم دفنها في الرمال المتحركة حتى يصبح الوصول اليها نوعا من الهلاك، خاصة بعد ان صار كل من يؤمن بها ينعت بالارهابي؟!

يقال بان الشعوب العربية تكره السلام! فهل هي بالفعل كذلك، ام انها وصلت الى مرحلة من القنوط دفعت الكثيرين الى الشعور بأنه ليس هناك ما يخسرونه، وبالتالي تعادلت كفتا الموت والحياة لديهم؟! لتكن الشعوب العربية كارهة للسلام اذا كان يعني ان تتقبل صاغرة انتهاك ارضها! لتكن الشعوب العربية كارهة للسلام اذا كان يعني ان تطأطئ رأسها وتغض الطرف عما يجري من سلب ونهب لثروات البلدان العربية على ايدي الغرباء! لتكن الشعوب العربية كارهة للسلام اذا كان يعني الثورة على الظلم والاستبداد!! لتكن الشعوب العربية كارهة للسلام اذا كان يعني المطالبة بتحقيق العدل والانصاف المنعدمين حين يتعلق الامر بقضايا العروبة!

اين السلام الذي تدعمه امريكا وهي تقف صامتة امام المجازر التي تلحق بالشعب الفلسطيني يوميا على ايدي الاسرائيليين من قتل وهدم لمنازلهم، في الوقت الذي تدين فيه بشدة ما يجري للجانب الاسرائيلي؟! لقد خرج الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول والامين العام لهيئة الامم المتحدة كوفي عنان، منددين امام العالم بالعملية الاستشهادية الاخيرة التي وقعت في القدس المحتلة، متجاهلين ما يحدث في المناطق المحتلة، ومحاولة اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي! ان ما تدعو اليه امريكا ببساطة هو سلام اعرج، وفي قواميس اللغة يطلق عليه استسلاما! وما دامت الشعوب لا تنعم بالامن والاستقرار داخل اوطانها، وما دام عنصرا المساواة والعدل غير متوفرين، وتشاع رياح التفرقة العنصرية في التعامل مع ردود الافعال من قبل الجانبين، فلن يتحقق السلام.

ان القضية لا يمكن ان تنتهي بفرض خرائط طرق، ولا باطلاق البيانات، وانما بأن تصبح حقائق فعلية على الارض، ولا يكفي ان يجز المرء الاغصان الميتة، ويسوي العشب من دون ان يدقق النظر في التربة، ويستخرج الآفات الكامنة في اعماقها، والا سيصبح الامر مضيعة للوقت. وكم من قضايا كثيرة في حياة الشعوب العربية لم يتم التعامل معها بانصاف وكانت النهاية مفجعة، وكم في تاريخنا من فواجع.

بين حين وآخر، احاصر نفسي بسؤال قد يكون جنونيا، لكنه فطري: متى اتمكن من الوقوف في شرفة منزلي، وأتطلع بتفاؤل الى الفضاء الواسع مع ظهور اول خيوط الفجر، وتتناهى لسمعي نغمات (سيمفونيات) سلام حقيقية تكون قادرة على الصمود حتى يرث الله الارض ومن عليها؟!

[email protected]