المثقفون طَائِفَةٌ مُنْقَرِضَةٌ

TT

مازال المثقفون يعيشون في كهوف الزمان الثوري، حين زحلقهم وزير الثقافة الألماني (غوبلز) أيام (هتلر) بقوله: (حين أسمع كلمة مثقف أسحب مسدسي).. زحلقتهم مقولة رجلٍ اشتهر آنذاك بـ (وزير التّضليل)، أي (صحّاف النّازية)، فظنوا أنهم (خطرون) لهذه الدرجة!!

ولو فرضنا ـ تنازلاً ـ أن الثقافة ليست شتيمة، فهي مهنة لا يسعى لها إلا (المؤلفة أقلامهم).. بمعنى من المعاني (أن الكتابة عملية تعرية) كما هي عبارة لورانس..!!

من هو المثقف.. وما مفهوم الثقافة؟! وهل طرأ على هذا المصطلح تغيير؟!

وهل الثقافة ما زالت محتفظة بمكانتها، أم تراجعت لتكون في (أسفل السافلين)؟!!

وحسب مفهوم (المُزحلقين)، فإن المثقف هو من يعرف أن المعلقات عشراً، ويعي ثورة يوليو، ويدرك معاني كتاب مستقبل الثقافة في مصر بكل تفاصيلها، ويقرأ ثلاثية نجيب محفوظ!!

ليسمح لي هؤلاء أن أمارس معهم طرفاً من القسوة.. فمنذ نصف قرن وهم يتحدثون، ونحن نتحلى بفضيلة الصمت، ولعله جاء الوقت الذي يجلسون فيه مجلس التلاميذ لنعطيهم درساً في الثقافة (العامة)..!!

الثقافة هي كل ما يبدعه الإنسان ابتداءً من تلك العجوز التي تجلس على قارعة الطريق تغزل الصوف، وتجْدل مكانس الخوص.. حتى ذلك المبدع السيد المحترم (بيل غيتس) الذي حَوَّل العالم إلى وسائط ومعلومات وأرقام، ولم يحوله إلى ثورة يوليو والعاشر من رمضان!!

العالم ـ يا سادة ـ لم يعد يطيق شخصاً طويلاً يقف لينشر العلم بين الملايين، لأن العالم كله أصبح مثقفاً، وربما نجد طفلاً صغيراً ضئيلاً في أحد أحياء جُدة - بضم الجيم ـ الفقيرة، أكثر منكم ومن أمثالكم ثقافةً ومعرفةً ومعاصرة..!!

ولعلي هنا أحيلكم إلى كتاب رائع اسمه (أوهام النخبة) لكاتب عملاق اسمه علي حرب، أعتبره أستاذي وأستاذكم، يقول في إحدى صفحاته: «إن المثقف هو الآن الأقل فاعلية وحضوراً على المسرح، قياسا على العاملين في بقية القطاعات كرجل الوسائط (1) ـ ولعلكم لا تعرفون رجل الوسائط ـ ومهندس الحاسوب، وصاحب المصرف، ورجل الأعمال، ولاعب الكرة، وسواهم من الذين يمارسون حيويتهم الفكرية في مجالات عملهم، لكي يسهموا في صناعة الحياة العربية، بالاستفادة من الثورات والفتوحات والابتكارات التي يتشكل بها العالم المعاصر، أما المثقف الذي يمثل أساساً سلطة أهل الفكر، فإنه يتخلى عن مهمة الخلق والابتكار للجديد والخارق من الأفكار، بقدر ما يشتغل كحارس لمقولاته أو ينشغل بالمحافظة على عجزه وقصوره، الأمر الذي يجعله يحيل الواقع بفكره إلى مجرد أطياف أو هوامات أو طوطمات ومثالات.. فيما الذي يفكر بصورة منتجة وفعالة إنما يصنع العالم عبر اللغة والصورة، أو عبر المفهوم والمعلومة، أو عبر الرقم والإشارة، أو عبر الأداة والسلعة».

إن الثقافات ـ كما أفهمها وأومن بها ـ هي ممارسة ردم الفجوة بين الطبقات، والتحام الحياة بكل تفاصيلها، والأخذ من كل فن بطرف، ولعلكم تتذكرون - إذا كنتم من الباحثين عن الحقيقة والثقافة ـ مصطلح (عمال المعرفة)، هذا المصطلح الذي يجعل كل الشعب عمالاً في الثقافة وإنتاج الحياة، ولا يقصر الحياة على من بالكاد يأكلون ما يزرعون من أمثالكم..!!

وعمال المعرفة، هذا العلم الذي جرى ابتكاره لفهم الثورة المعلوماتية، من شأنه أن يردم الهوة والفجوة بين النخبة والعامة، أي بين أهل العمل الفكري والعمل اليدوي من خلال صورة تنطوي على مقدار طويل من أنسنة(2) العلاقات بين الطبقات والمراتب والشرائح والأطياف الاجتماعية الملونة، إنه مفهوم حديث طازج يسمح بقراءة التحولات والتبادلات التي قفزت على علاقات التجاور الإنساني (المُتَعَوْلِمْ)، والتقارب المجتمعي الجديد بفضل الحواسيب وشبكات الاتصال الإلكترونية والفضائيات الطائرة.. وحتى لا أظلمكم، حين أقول ان كلمة مثقف أصبحت شتيمة لا يشرف أي ذي عقل التسمي بها.. يقول السيد الرائع الدكتور علي حرب:

«إن العالم اليوم يُصنع ويتوحد عبر الأقمار الصناعية والطرقات الإعلامية والثروات الرمزية، والنصوص العددية الفائقة التي تجوب الأرض بسرعة الضوء من نقطة إلى أي نقطة أخرى.. من هنا تغير الممثلون واللاعبون على المسرح، فالعالم يصنعه اليوم أناسٌ كـ (بيل غيتس) ورجال الاقتصاد الناعم، ومالكو شركات الإعلام الذين يحتلون الشاشة من فنانين وسياسيين أكثر مما يصنعه مثقفون أمثال تشومسكي أو جان زيفلر أو روجيه غارودي أو حتى فوكوياما..!! وهذا شأننا في العالم العربي، فنجوم الشاشة ولاعبو الكرة ورجال الأعمال الجدد، ممن يستغلون البرامج الإلكترونية، أخذوا يفعلون في مجريات الأحداث أكثر مما يفعله الكتاب والمثقفون ودعاة التحرر بمقولاتهم ومشاريعهم الأيديولوجية والنضالية».

ولا يسعني إلا أن أنصحكم ـ وهذا ثقيلٌ على نفسي ـ أن تقرؤوا كتاب (جغرافية الفوضى) وهو بالمناسبة ليس رواية على امتداد (فوضى الحواس)، بل هو سفر عظيم للأستاذ: ايناسيور رامونيه، وكل فحواه تدور حول العولمة وموت المسافة بين الأماكن والطبقات من خلال الثقافة الإعلامية، ووسائط الاتصال الأخرى.

في نظري أن مشكلتكم أنكم تزينون لبعضكم سوء أعمالكم، وتُحسِّنون الأخطاء في نظر بعضكم... وهذه معضلة كبرى..!!

بقي أن أذكّركم أن الزمان قد استدار (والعيال كبرت) كما هو تعبير الكوميدي الساخر سعيد صالح، والله من وراء القصد..!!

وهذه نصيحة أخرى يقدّمها لكم نيابةً عني الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي:

إِنْ كُنْتَ تَتَّبِعُ الْقَدِيمَ.. وَأَهْلَهُ فَارْكَبْ بَعِيرَكَ.. وَاطْوِين الْبِيدَا

أَوْ رُمْتَ يَوْماً بِالْقَدِيمِ تَأَسِّياً فَاسْكُنْ كَمَا سَكَنَ الْقَدِيمُ لَحُودَا

[email protected]