الدرس المغربي وخصوصية البلاد

TT

يشكل المغرب عبر تاريخه الطويل، على مستويات عدة، حالة لها خصوصياتها المتعددة. ولذلك عندما انفجرت حوادث العنف والإرهاب والإقصاء السياسي في بعض دول المنطقة، سار المغرب في الاتجاه المعاكس، اتجاه الاستقرار والتوافق وتوسيع مشاركة مختلف الاتجاهات السياسية في المسيرة نحو تطوير المسلسل الديمقراطي، وتوسعت دائرة احترام حقوق الإنسان، وخصوصا منها حرية الصحافة والتعبير، مما يشكل حالة من الحالات القليلة جدا في المنطقة العربية كلها.

وأتت تفجيرات 16 ماي الإجرامية بمدينة الدار البيضاء، وما تلاها من تفاعلات، لتدفع البعض إلى التشكيك في هذه التجربة، وإلى الحديث عن انتهاء الخصوصية المغربية، في الوقت الذي برزت فيه أصوات تدعو إلى انتهاج نماذج أخرى عرفت بالإقصاء والتضييق على الحريات الفردية والجماعية، وتبني الفكر الشمولي. وقد صبت هذه الأصوات جام غضبها على حزب العدالة والتنمية، وعلى جماعات التيار الإسلامي المعتدل لتطالب بإقصائها جملة وتفصيلا، وتحميلها مسؤولية ما حدث.

وفي فترة من الفترات علت تلك الأصوات في وسائل الإعلام العامة والخاصة، المرئية والمكتوبة، وبدا أن هناك تيارا استئصاليا كثير الجلبة والصراخ على الرغم من كونه هامشيا محدود العدد.

وأتى خطاب جلالة الملك محمد السادس يوم 29 ماي 2003 ليضع الأمور في نصابها، وليهدئ النفوس الحائرة، وليطمئن الجميع على أن المغرب في مقاربته لأزماته ومحنه لا يزال يشكل حالة خاصة في المنطقة. لقد أكد الخطاب على أن مغرب ما بعد 16 ماي «أشد صلابة، وأكثر إصرارا، وأقوى عزيمة، على بناء مغرب الوحدة والديمقراطية والتنمية والتقدم والتضامن والتسامح، جاعلا من هذا الخيار الوحيد خيارا لكل المغاربة، وملكا لكل المواطنين، المتشبعين بقيمه المثلى، العاملين على تجسيده على أرض الواقع».

وأكد جلالة الملك على المقاربة الشمولية لمقاومة ظاهرة الإرهاب، بدل المقاربة الأمنية التي يروج لها كثيرون، فقال بالحرف: «وهذا ضمن استراتيجيتنا الشمولية المتكاملة الابعاد، بما فيها الجانب السياسي والمؤسسي والأمني، المتسم بالفعالية والحزم، في إطار الديمقراطية وسيادة القانون، والجانب الاقتصادي والاجتماعي، الذي يتوخى تحرير المبادرات وتعبئة كل الطاقات، لخدمة التنمية والتضامن، والجانب الديني والتربوي والثقافي والإعلامي، لتكوين وتربية المواطن على فضائل الانفتاح والحداثة والعقلانية والجد في العمل والاستقامة والاعتدال والتسامح. وسنظل حريصين أشد ما يكون الحرص على نهج السياسات اللازمة، لتفعيل هذه الاستراتيجية، وهدفنا الأسمى في ذلك تعزيز كرامة المواطن، وتحصين الوطن وضمان إشعاعه الدولي، بعون الله وتوفيقه».

وهكذا اتضح الاتجاه الذي اختار المغرب أن يسير فيه على الرغم من صدمة التفجيرات الإجرامية، إنه خيار الاستمرار في البناء الديمقراطي التعددي الطامح إلى مزيد من دعم دولة الحق والقانون وحقوق الإنسان.

لقد واجه حزب العدالة والتنمية سهام التشكيك والتشويه بُعيد الأحداث، وذهب البعض إلى حد المطالبة بحله. واختار هو (الحزب) منهج الصبر والثبات، والثقة بالله أولاً، ثم بملك البلاد ومؤسساتها، إلى أن تمت إزالة الفتيل وتجاوز الأزمة. واليوم يمكن أن نؤكد بصفة مسؤولة أن انتصار المغرب في تلك المحنة كان لأسباب عديدة أهمها ثلاثة هي:

أولا وقبل كل شيء، حكمة وتبصر الملك محمد السادس، الذي كانت مواقفه واقية من الانزلاقات أو التجاوزات، وهو ما أغلق الباب أمام دعوات الإقصاء والاستئصال، وأعطى للتجربة المغربية امتيازها واستقرارها، وجعلها من النماذج الناضجة في المنطقة العربية والإسلامية. ونؤكد جازمين أن الصفة الدينية لملك المغرب ضمان لسير البلاد في طريق الوسطية والاعتدال، بعيدا عن أي تطرف ديني أوعلماني. وقد أكدت الأحداث أن نوعي التطرف هامشيان ومعزولان في المجتمع المغربي.

ثانيا، تعقل عموم النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية المغربية. فعلى الرغم من تعدد مشاربها واختلاف توجهاتها فقد رفضت الإقصاء وعبرت لحزب العدالة والتنمية عن تضامنها معه، وهذا ما جعل المحنة التي عاشتها البلاد تنتهي بعزل الذين رفعوا لواء الإقصاء والاستئصال.

ثالثا، تعامل حزب العدالة والتنمية مع تحديات المرحلة بهدوء وصبر، وعدم انجراره وراء الاستفزازت التي تعرض لها، جرياً وراء منهجه العام في التأني والرفق. ولئن كان للحزب دور مهم في تشجيع خط الاعتدال والوسطية والمشاركة بين المنتمين والمتعاطفين مع الفكرة الاسلامية، فإني أؤكد أن الحزب سيستفيد من التجربة التي عاشتها البلاد، وسيقوم بشجاعة بالنقد الذاتي اللازم، عاملا على إصلاح أخطائه ومراجعة أساليب عمله في ضوء ملاحظات الأصدقاء وانتقادات الخصوم، دون أن يثنيه ذلك عن المضي بثبات للإسهام في مهام الإصلاح وفق خطه العام وبرنامجه.

لقد ظن البعض أن تفجيرات 16 ماي الإرهابية ستنهي خصوصية المغرب، والصحيح أنها أكدت هذه الخصوصية وزادتها رسوخا. وستبقى التجربة المغربية تدخر المفاجآت السارة للأصدقاء والمراقبين والمتتبعين، وستثبت أن بلدا مسلما ناميا، قادر على تجاوز الأزمات بثبات وقوة نحو مستقبل الأمن والعدالة والازدهار.

* نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي