الإسلام الأصولي في موريتانيا... ما حقيقته؟

TT

يفترض الموريتانيون أن لهم تاريخا إسلاميا وأنهم مجتمع متدين ظل متمسكا بدينه وبعقيدته على مر الدهور والعصور. وأنا لا أنفي ذلك. لا أنفي تشبثهم بالدين، ولا أنفي ما هو مقطوع به من تعلقهم بدراسة القرآن والحديث وعلوم الشرع على تشعبها. بيد أني أود أن ألفت النظر إلى مسألة جوهرية قلّ من فطنوا بها أو انتبهوا إليها. إن هذه المسألة هي حقيقة أن الموريتانيين رغم تدينهم لم يخلطوا أبدا بين السياسة والدين. أو بعبارة أخرى، ظلوا يفرقون بين الدين والدولة.

إن الاحترام الكبير الذي كان يحظى به أهل العلم من فقهاء ومشايخ ومتصوفين لم يعادله أبدا إلا حرصهم على الابتعاد عن أمور السياسة وقضايا الحكم. فقد كان ورعهم يحول بينهم وبين التقلد بحقوق العامة والمجازفة بإدارة شؤون الحكم. وبالتالي فقد بات الحكم في أيدي غيرهم مكتفين هم، في أحسن الأحوال، بأمر القضاء وفصل الخصومات وتبيان بعض أحكام الشرع لطالبيها. ولعل هذا ما يفسر الغياب التاريخي لأية إمارة قائمة على مرجعية دينية بين الإمارات التي حكمت موريتانيا تاريخيا. فكلها كانت أنظمة سلطة مبنية على مراجع قيمية مغايرة تفترض أن يكون الأمير أو السلطان رجل حرب لا رجل دين.

ورغم أني لا أنوي الإمعان في تحليل البنيات الأساس لتلك الأنظمة لكون بعض تلك الأمور لا يزال حساسا في مجتمعنا اليوم، إلا أنني أحتفظ بالملاحظة المركزية وهي أن دار الإمارة كانت مفصولة عن دار القضاء; مما يعني أن نموذج الحكم التاريخي في موريتانيا كان متطورا بالمقاييس الحديثة. فقد كان مجسدا لمبدأ فصل الدين عن الدولة.

واعتبارا لهذه الحقيقة التاريخية، يمكننا أن نجزم غير مترددين بأن ما يعرف اليوم اصطلاحا بالفكر الأصولي السياسي هو فكر دخيل ووافد على المجتمع الموريتاني. لأن الأصل كما أسلفنا هو فصل السياسة عن الدين وليس العكس. ومع هذا، فإننا نلزم أنفسنا بأدنى درجات الموضوعية التي تفرض علينا أن نسوق بعضا من آراء من يخالفوننا. ولعل من أهمها تاريخيا هو التأسيس على الدولة المرابطية باعتبارها أول دولة كبرى حكمت موريتانيا بعد دخول الإسلام إليها. وهذه حقيقة لا مراء فيها. إلا أن هذا البناء التاريخي ـ الذي لا نية لنا في تقويضه مطلقا ـ لا يصح أن يكون مرجعا للأصولية وذلك لعلة بائنة هي أن الدولة المرابطية لم تقتصر على موريتانيا وحدها بخلاف الإمارات التي ذكرنا سابقا والتي كانت محصورة في الحدود الجغرافية لموريتانيا حاليا. وبالتالي فإن الإرث المرابطي إرث مشترك مع غيرنا وليس ملكا خاصا شأنه في ذلك شأن الإرث العباسي أو الأموي أو حتى الراشدي.

أما الآراء الأخرى فترتكز إجمالا على بحث وتنقيب يائسين في بعض الفواصل التاريخية لإعادة تركيبها وصياغتها في شكل مشاريع سياسية أو مشاريع دول كثير منها وهمي وقليل منها مثبت تاريخيا، لكن لم يتجاوز تأثيره بضعة أحياء من البدو تجمعوا في صائفة على بئر أو في مشتى على مرتع.

إلا أننا رغم اقتناعنا بجدية التحليل التاريخي وسلامة القراءة التي قدمنا، لا يمكن أن نكابر على الاعتراف بأن ما يشهده القاصي والداني من مد أصولي في موريتانيا اليوم لا يمكن أن يتأتى من فراغ. فكيف إذا أصبح الواقع المعيش نتيجة مخالفة لنسق تاريخي نصرّ على أنه مختلف؟

من المفارقة أن يكون أبسط الإجابات عن تساؤلنا هو الجواب الصحيح. أي أن ما نشهده اليوم هو طفرة لانمطية مثلها تماما مثل متلازمة «السارس». فإلى غاية العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ظلت موريتانيا بلدا منسجما مع ثوابته التاريخية رغم أن قيام الدولة الحديثة بعد الاستقلال أهدى موريتانيا اسما جميلا هو الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وهو الاسم الذي عبرت فيه عن هويتها الحضارية وليس عن هويتها السياسية. فتلك الهوية السياسية لم تعط للبلاد إلا في مطلع الثمانينات، عندما انتبه بعض السّاسة إلى أن الشرعية التي يفتقدون إليها بعد وصولهم لسدة الحكم قد يعوضها سعيهم لاستغلال حب الموريتانيين لدينهم وتمسكهم به. فبادر بعضهم إلى خطب ودّ الجماهير معلنا تطبيق أحكام الشريعة وواعدا إياهم بعهد لم يعرفوه إلا من خلال كتب السيرة، أي عهد عمر بن الخطاب.

لكن سرعان ما تبين لهذا الشعب الطيب أن تطبيق أحكام الشريعة لم يشمل إلا بعض الحدود التي لم تدرأ بالشبهات والتي لم تطل إلا أسافل القوم دون عليتهم. ولعلنا نذكر أيضا تلك القرارات الدعائية بتحريم الخمر في موريتانيا رغم أن الموريتانيين لم يشربوا الخمر قط، بل وحتى لم يعرفوها. ولربما كان تحريم التدخين المضر والمتفشي في البلاد خيرا وأكثر نفعا.

ولعله من المفيد في هذا السياق أن نذكر بالخلفية العامة التي مهدت لقيام هذه الحركة الأصولية الجامحة. فبالإضافة إلى ما ذكرناه آنفا من تهافت بعض القادة على عمليات التجميل السياسي واستغلالهم لورقة الدين كريشة يزينون بها صدورهم، كانت ثمة عوامل موضوعية أسهمت إسهاما كبيرا في قيام ما يوصف بالصحوة الإسلامية. ومن أهم تلك العوامل، رجوح كفة النضال السياسي في البلاد لصالح الحركات القومية العربية بمختلف أطيافها على حساب التيارات اليمينية واليسارية الأخرى التي كانت تشترك عموما في تطلعها إلى تعزيز انتماء البلاد إلى الفضاء الفرانكوفوني لغة وثقافة. وقد أدى هذا الوضع - مع ما صاحبه من حركة عالمية تصاعدت فيها الدعوات إلى حماية الهويات الثقافية للشعوب - إلى تسريع مشروع التعريب، خاصة بعد دخول موريتانيا حظيرة الجامعة العربية أوائل السبعينات. وهكذا تحول النظام التعليمي في البلاد من الازدواج إلى التعريب شبه التام في أقل من عقد واحد من الزمن. وموازاة مع التعريب، أنشئت معاهد متوسطة وعليا مختصة بالدراسات الإسلامية والشرعية كجزء من دينامية الحفاظ على الذاتية الثقافية والحضارية للبلد.

وبطبيعة الحال، فإن هذه العوامل، مجتمعة أو فرادى، لا تقود بالضرورة إلى درجة التشدد الأصولي الذي يلحظه المرء دون عناء في الساحة اليوم، ذلك أن حفظ الشرع والذاتية ليسا رديفين للتشدد وبالأحرى التطرف. وربما يكون هذا صحيحا. لكن تحليلا غير معمق يكشف بسهولة كيف اتجهت هذه الصحوة رأسا إلى التطرف. إن من أهم الملاحظات البارزة هو اكتساح خريجي المعاهد الدينية للحركة الإسلامية، وهذا يعني أن القيادة باتت في أيدي أشخاص بطبيعتهم يكرهون المدنية والحضارة المادية لحداثة عهدهم بالحياة الريفية، وبتكوينهم معادون للاختلاف والتعددية. فالمعاهد المذكورة لم تكن تابعة لوزارة التعليم وإنما لوزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي. وهذا خطأ تربوي جسيم أدى إلى منع الاحتكاك بين طلبة هذه المعاهد - وهم تلامذة المدارس القرآنية الريفية (المحاظر) والطلبة الآخرين من خريجي التعليم النظامي. ولو تم إدماج هذه المعاهد في كلية واحدة للشريعة، مفتوحة أمام كافة الطلبة المؤهلين من التعليم النظامي والأصلي على حد سواء، إضافة إلى تطعيم البرامج بمدخلات أخرى ذات صبغة علمية وثقافية أوسع، لكانت روح الانفتاح أكبر ودرجة الاستيعاب أعلى.

أما الملاحظة الثانية فهي اكتشاف الحركة الإسلامية لقوتها بعد انهيار الحركات القومية نتيجة الأحداث المتلاحقة التي عصفت بالمشروع القومي وفككت بنيات النظام العربي إجمالا. فكان لا بد للحركة الإسلامية أن تشعر بأنها الأقوى وبأن البقاء يظل دائما للأصح. وقد أعطى هذا زخما للحركة خاصة أنها باتت تمثل خيارا أوحد لجيل تم تعريبه آليا فلم يعد يدرك أي معنى للانفتاح.

ولربما ساهمت كذلك الأجواء الديموقراطية التي عرفتها البلاد في مطلع التسعينات من القرن الماضي في خلق منابر عديدة لم يفت الحركة أن تستغلها في تمرير خطابها السياسي الذي وفق بين قوة البيان وسهولة الاستشهاد بالقرآن. ومن أبرز تلك المنابر وأقربها إلى عامة الناس، منابر المساجد. فقد تكون موريتانيا الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي التي لا تخضع فيها المساجد وخطب الجمعة لوصاية الدولة أو سلطتها. وهذا دليل آخر يكرس الاستقلال التاريخي الذي قلنا به بين الدين والدولة في موريتانيا. ولعلّي أشير هنا إلى ما قيل من محاولات السلطات العمومية التدخل في الآونة الأخيرة لفرض وصايتها على المساجد، فأشدد على أننا بقدر ما نرفض إقحام الدين في السياسة، نرفض كذلك ـ بل بدرجة أقوى ـ تدخل السياسة في الدين أو بمعنى آخر تدخل الدولة في الدين. فالثوابت التاريخية التي استقام عليها المجتمع الموريتاني هي استقلال المؤسستين عن بعضهما البعض. فالمساجد دور للعبادة والخطبة جزء من العبادة والعبادة علاقة بين العبد وخالقه لا يجوز لأي كان التدخل فيها سواء كان فردا أم مؤسسة.

أما وجه الملاحظة الأخير، فهو نتيجة مركبة لخطإ عزل المعاهد الإسلامية عن بقية التعليم النظامي. وهو شعور دفع مجازيها إلى الاعتقاد بأنهم وحدهم المؤهلون للإفتاء. وهكذا تم تسخير هذا الامتياز التفضيلي لخدمة الأهداف السياسية. فأصبح لكل قضية مفتٍ ولكل مفتٍ قضية. فهناك المفتون في القضايا التجارية والمصرفية وهناك المفتون في القضايا المدنية بل وهناك المفتون في العلاقات الدولية. ونحن إذ نميل إلى حرية الرأي وحق الاختلاف، فإننا لا نطلب من أحد أن يكف عن التعبير ولكننا نرفض تخويل أي كان حق إصدار الحكم النهائي مهما كانت مكانته وأيا تكون دوافعه. فديننا كامل ونعمتنا تامة ولا رأي مقطوع بصحته أو ببطلانه مطلقا. فعلينا ألا نتشدد في ديننا فيشدد الله علينا، وألا نضيق على أنفسنا فيضيق الله علينا.

* باحث موريتاني