كُلْشِ ماكو

TT

جميع العائدين الى العراق يطلبون شيئاً واحداً: الحكم. او السلطة. او شيئاً من الاثنين. وكل فريق او شخص يطرح نفسه على انه هو الحل. من الملكيين السابقين الى معارضي الملكية، ومن البعثيين السابقين الى تجمع المعارضين ضد صدام حسين. او من بقي منهم على قيد الحياة. وبين هؤلاء العسكري السابق والمخابراتي السابق والمدني الدائم، مثل الدكتور عدنان الباجه جي، وزير الخارجية الاسبق، وهو أيضاً نجل اشهر رئيس وزراء في العراق. فوالده هو الذي اعطى الاوامر للفرقة العراقية المقاتلة في فلسطين بالهجوم على تل ابيب التي كانت تبعد عنها 10 كيلومترات. لكن اوامر معاكسة جاءتها من نوري السعيد. وعندما سئل قائد الفرقة فيما بعد، لماذا لم يقم بالهجوم اطلق تلك الجملة التي ذهبت مثلاً في تعليل اسباب النكبة: ماكو اوامر!

يوحي عدنان الباجه جي بالهدوء والتروي والاستقامة. او بالأحرى يبالغ في الهدوء في زمن عاصف. لكنه على ما يبدو يحاول الابحار في محيط هائل من الغموض والعقد والمجهول. ولا يبدو حتى الآن ان احدا من السياسيين العراقيين قد اقترب من الكرسي المعلق في سماء بغداد. ويصل هؤلاء الى العاصمة العراقية من كل الانحاء وعبر كل الطرق، لكنهم ما ان يبلغوا الداخل حتى يضيعوا في بحر الفوضى والفلتان وقيظ الصيف.

قبل ان تبدأ الحرب كان المحللون يحللون موعد المعركة في مطابخهم. وكانوا يجمعون في همة واحدة، على انه لا بد ان يقع قبل حلول الحر. وها هو صيف العراق يشق طريقه، ويا ألطاف الله، اربعون في الظل. مساء. ويحمل الجنود الاميركيون معهم احدث انواع الاسلحة، لكن ليس بينها ثلاجات ولا مراوح كهربائية كالتي جاء بها الانكليز يوم احتلوا العراق في المرة الاولى.

من اين دخل الانكليز الى العراق العام 1917؟ لا احب كثيراً لعبة «التاريخ يكرر نفسه»، لكنهم، جنابك، دخلوا ايضاً من البصرة. وأي مدينة كانت يومها الأكثر عنفاً؟ عفوا، جنابك، لكنها كانت الفلوجة التي لا تنام ولا تترك احداً ينام. وارجو ان تقرأ اسم الفلوجة باللهجة العراقية، اقتضاء الدقة في التعبير.

جاء البريطانيون الى العراق بقيادة الجنرال ستانلي مود، الذي قتل وهو يحاول ان يوحد العراق تحت سلطة واحدة. وفي بغداد دفن. وفيها دفن ايضاً الكولونيل جيرار ليشمان الذي قاد البدو ـ مثل لورانس ـ ضد الاتراك. ثم قتل في فخ نصبوه له في الفلوجة وابقيت البندقية الطويلة التي قتل بها في المتحف الوطني. ولذلك قبل وصول الاميركيين صدرت صحيفة «العراق ديلي» وفيها مقال افتتاحي يعد الجنرالات الاميركيين «بمدفن لائق جداً الى جانب سلفكم ستانلي مود». توقفت «العراق ديلي» طبعاً عن الصدور مع الصحف الوحيدة التي كانت تصدر في بغداد، والتي كان يملكها جميعاً الناشر الاوحد، عدي. وهناك الآن مائة صحيفة، اي تقريباً في عدد طالبي الرئاسة. او شيئاً منها. ومثل مركب سيدنا نوح، ثمة زوجان من كل شيء في بغداد: من طالبي الحكم ومن المعارضين ومن المقاومين ومن الفلتان ومن القناصين ومن التجار ومن المضاربين الذين جاءوا عاصمة العراق ينتظرون الفرصة المناسبة لشراء متجر او عقار او شركة، ولكن ليس قبل ان يتأكدوا من ان في الامكان تسجيلها. او انها ليست مباعة مرتين، كما كان يحدث بعد انتهاء الحرب الاهلية في لبنان، حيث بيعت بعض الشقق كما كان يباع «القطر» لأهل الصعيد عندما يزورون القاهرة للمرة الاولى.