بوش أمام التحدي العظيم: مصالح أمريكا.. أم أهواء شارون؟

TT

لنفترض: أن أجهزة ومؤسسات وشخصيات أمريكية عديدة مخلصة لبلادها، مقدمة مصالح وطنها وسمعته على أي اعتبار آخر ـ بما في ذلك الأجندة الصهيونية الأنانية ـ.. لنفترض: أن هذه الأجهزة والشخصيات، قد قدمت للرئيس الأمريكي جورج بوش: المشورة التالية:

أ ـ أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتعت بـ(فرصة تاريخية فريدة) على المسرح الدولي، في هذه الحقبة، بمقتضى عوامل كثيرة.

ب ـ على الرغم من وجود هذه الفرصة التي ليس من المتوقع: أن تتكرر ـ من حيث أن القانون التاريخي العام لا يتسع لتكرار الفرص ـ، فإن قدرة الولايات المتحدة على استثمار هذه الفرصة الفريدة، لم تكن في مستوى ما تهيأ من ظرف زماني ومكاني نادر.. والسبب هو: أن هناك دوائر مؤثرة في الولايات المتحدة، وذات ولاء مزدوج، رأت أن تستفيد هي من هذه الفرصة، غير مكترثة بمصالح أمريكا وسمعتها.

ج ـ أدى هذا الوضع إلى سوء في التقدير والحساب والقرار والموقف ترتب عليه (تراجع) صورة الولايات المتحدة في العالم بوجه عام، في حين أن العكس هو ما كان ينبغي أن يكون.. وإذا كنا لسنا بصدد اقتراح محاسبة من تسبب في ذلك فإن العبرة العملية هي: إيقاف هذه المهزلة الفادحة الضرر حتى لا تمتد بآثارها المدمرة في المستقبل: القريب والبعيد.

د ـ ومما زاد الأمر سوءا: أن صورة الولايات المتحدة قد شاهت أكثر، في مرآة الرأي العام العربي الإسلامي، بحكم الوقائع الثلاث الآتية:

أولا: غباوة الاعلام الثقافي والسياسي في معالجة أحداث 11 سبتمبر 2001.. فقد كان ينبغي أن يكون إعلامنا أكثر ذكاء وموضوعية ومصداقية، بمعنى أنه كان عليه: أن ينتهز هذه الفرصة لكي يكسب الرأي العام الإسلامي أو يحيّده ـ على الأقل ـ بهدف محاصرة (الإرهابيين) في أضيق نطاق وعزلهم ونبذهم كخدمة أساسية للأمن القومي الأمريكي.. لكن الذي حدث هو نقيض ذلك، إذ أن الاعلام الثقافي والسياسي الأمريكي: انهمك أو سقط في (مزلق التعميم): تعميم الاتهام على الإسلام من حيث هو دين وعلى المسلمين كأمة.. وأدى هذا الأداء الإعلامي الرديء إلى نتيجتين، الأولى هي: شعور المسلمين جميعا بالغبن والجور، وبأنهم مقصودون ـ دون استثناء ـ بهذه الحملة الإعلامية الضارية.. النتيجة الثانية هي : خدمة الإرهابيين عن طريق تصويرهم بأنهم يمثلون الأمة العربية الإسلامية.. هذه الواقعة لا يمكن تفسيرها ـ بالمعيار القومي ـ إلا بأنها إساءة جسيمة لصورة الولايات المتحدة.

ثانيا: الحرب على العراق. فهي حرب لم يكن الإعداد لها كافيا ولا مقنعا في مجال (رفع مصداقية حجج الحرب ومسوغاتها)، يكفي في ذلك دليلا: الجدل الجدي الذي بدأ ولم ينته حول علاقة النظام العراقي البائد بتنظيم القاعدة. وحول وجود أسلحة دمار شامل في ذلك البلد.. لا شك أن هذا الاضطراب، أثمر اضطرابا شديدا في صورة الولايات المتحدة، وتراجعا في سمعتها ومصداقيتها.

ثالثا: الخلل المروع في الموقف الأمريكي ـ في السنوات الأخيرة ـ بخاصة ـ تجاه الصراع: الفلسطيني الإسرائيلي، وتجاه الصراع العربي الإسرائيلي بصفة عامة.

لنفترض: أن وطنيين أمريكيين ممتلئين إخلاصا لبلادهم، وشوقا لخدمتها، قد قدموا هذه المشورة للرئيس الأمريكي.

ولنفترض أنهم بعد تصوير الحالة والموقف قد قدموا إليه مقترحا سياسيا وعمليا يتلخص في (تعديل حقيقي وعادل وجاد) في سياسة الولايات المتحدة بإزاء القضية الفلسطينية.

ولنتصور أو نفترض: أن الاقتراح تضمن: أن بداية التوجه الأمريكي الجديد تتمثل في (الحضور الشخصي) لرئيس أمريكا في المنطقة.

ولنفترض: أن الرئيس الأمريكي أدرك ـ بعمق ـ مضامين الذكاء والرشد والإخلاص وبعد النظر في هذه المشورات والمقترحات فجاء إلى المنطقة ليبدأ البداية الجديدة.

ثم (فوجئ)!! بمن يحرجه ويضعه في مأزق، ويعمد إلى نسف التوجه الجديد ـ المحقق للمصالح الأمريكية كأفضل ما يكون ـ.

من هو هذا الذي أحرج بوش وورطه ووضعه ـ ومعه الولايات المتحدة ـ في مأزق يكسر الظهر، ويسقط الهيبة، ويجلب السخرية؟

لا نحسب: أن الجواب يحتاج إلى ذكاء خارق، وثقافة سياسية غزيرة عميقة. فعامة الناس يعرفون الجواب.

إن من فعل بأمريكا ورئيسها هذه الأفاعيل هو ـ بالتعيين والتحديد ـ: (أرييل شارون).

فلم تكد محركات طائرة الرئيس الأمريكي التي عاد بها من الشرق الأوسط إلى بلاده تهدأ أو تتوقف، حتى تعمد شارون أن يضرب ضربته، وأن يأمر باغتيال عبدالعزيز الرنتيسي احد زعماء حركة حماس الفلسطينية.

وهذه الضربة موجهة أيضا ـ وبطريق مباشر ـ إلى الرئيس الأمريكي، والى الولايات المتحدة. وكأن شارون أراد أن يكتب رسالة ـ بلغة الاغتيال ـ إلى الرئيس الأمريكي، يقول له فيها: «لقد جئت إلى هنا لكي تغير نهجي، وتزحزحني عن ثوابتي ومواقفي. ولكن يجب أن تعلم: أن هذا مستحيل .. مستحيل مستحيل. فليس أرييل شارون هو الذي يخضع لأمثالك، ولتقديراتك المحرومة من ضوء نظرتي الاستراتيجية. وكنت فكرتُ في أن اكتب لك رسالة عادية نظرية في الموضوع، بيد أنني صرفت هذه الفكرة عن ذهني، واخترت لغة الواقع، وهي اللغة المسطورة في خطة اغتيال ذلك الشخص».

ويبدو: أن الأمريكيين أدركوا (الإساءة طويلة المدى) التي وجهها شارون إليهم.

ولقد عبر بوش نفسه عن الشعور المرير بهذه الإساءة فقال: ـ وفق مصادر رفيعة وعديدة ـ : «إن شارون خدعني، ونكث بوعده. فقد وعدني بألا يفاجئني بأي عمل درامي، وبأن يقدم كل مساعدة من اجل نجاح جهود السلام، لكن بدلا من ذلك، هاهو يضع العراقيل، ويفجر الموقف، ويسعى لتدمير الجهود المخلصة.. لقد أزعجتني الهجمات التي نفذتها إسرائيل أخيرا بمقاتلات الهليكوبتر، ويزعجني أن هذه الهجمات ستجعل من الصعب على القيادة الفلسطينية مقاومة الجماعات الإرهابية!!، ولا اعتقد أن الهجمات تخدم الأمن الإسرائيلي».. وقد شرح المتحدث باسم البيت الأبيض (آري فلايشر) أسباب انزعاج الرئيس فقال: «ان انزعاج الرئيس بوش من الهجوم على الرنتيسي كان بسبب القلق من تدمير المناخ الجديد الذي أوجدته قمة العقبة، ومع أن الرئيس يريد أن يذكر كل الأطراف بمسؤولياتها، فإنه اليوم يقتصر على تذكير إسرائيل بهذه المسؤوليات».

علم شارون ـ بيقين ـ أنه هو المستهدف بهذا النقد الحاد المفعم بالاتهامات من كل نوع، وأولها: الاتهام بالتلاعب بمكانة الولايات المتحدة وسمعتها وثقلها الاستراتيجي، وعلى الرغم من علمه بذلك، وبدلا من أن يتراجع ويتواضع ـ على الأقل حفاظا على العلاقات التي لا يمكن أن يصفها بأنها ضد إسرائيل ـ بدلا من ذلك ، راح يمارس عادته في العناد، والتكبر، والاستخفاف بالآخرين، واحتكار الصواب.. قال المخادع الأعظم: «إنني لم اخدع أحدا. فإذا لم يفهم احد ماذا اقصد، فهذه مشكلته هو، وليست مشكلتي أنا».. وحتى هذه الجملة تحمل إساءة بالغة، فالإشارة إلى عدم فهم مقاصد شارون، تنطوي على اتهام بالبلادة والغباوة للطرف الآخر الذي لم يفهم!!

الخداع منهجه وحرفته

إن من يقرأ سيرة شارون السياسية والعسكرية: تجبهه صفة غليظة جدا، وبارزة جدا، ومطردة جدا، في هذه السيرة.. هذه الصفة هي (الخداع المنهجي).

وقبل أن نغادر ردود الفعل على جريمة الاغتيال هذه، نثبت موقفا لعدد من كبار الجنرالات الإسرائيليين السابقين. فقد همّ هؤلاء أن يوجهوا رسالة مفتوحة لشارون يشيدون فيها بجهوده من اجل السلام. ولكنهم عدلوا عن ذلك بعد عملية محاولة اغتيال الرنتيسي، إذ شعروا بأنه قد (خدعهم)، وعلى عجل بدلوا موقفهم، وكتبوا بيانا يدين محاولة الاغتيال، وفسر العميد (اشرليفي) هذا التبدل الصاعق بقوله: «لقد اعتقدنا بسذاجة أن شارون تغير، وأنه بدأ يفكر فعلا في مستقبل الأجيال القادمة، وأهمية بناء إسرائيل كدولة سلام، ولكنه في الواقع لم يتغير، فهو الرجل الذي لا يفهم إلا لغة الحرب والعنف».

إن هذه فرصة لان يطلع الأمريكيون على (ملف شارون) في العنف والإرهاب والخداع، وذلك في سياق التدابير الأمريكية الرامية إلى (مسح ملفات العنف كله في العالم ابتغاء التعرف على جذوره ومظاهره).

ومن صفحات ملف شارون ـ في هذا السياق ـ ما كتبه عنه ـ مثلا ـ (كولن شندلر) في كتابه (إسرائيل الليكود والحلم الصهيوني)، إذ يقول: «لقد احس مناحيم بيغن بأن شارون قد خدعه في حرب لبنان.. إن شارون رجل ولد بطموح عنيد وطائش. فغزو لبنان في عام 1982 سجل فاضح في التضليل والخداع. وتحول لينتهي بكارثة.. كانت حربا هزيلة كلفت إسرائيل ثمنا باهظا مازال مستمرا حتى الان.. وقد أدانت لجنة كاهان أرييل شارون».

وشارون لم يخدع المسؤولين الإسرائيليين فحسب، بل من الثابت انه خدع الولايات المتحدة في حرب لبنان تلك.. وها هو يمارس ـ اليوم ـ منهجه وحرفته مع الرئيس الامريكي فيحرجه ويضعه ـ وبلاده معه ـ في مأزق يكسر الظهر، ويسقط الهيبة.

مما لا ريب فيه: أن الولايات المتحدة تواجه الآن تحديا كبيرا ومريرا يتعلق بأمنها الأعلى ، ومصالحها الحيوية.

فالتقدير العقلاني الموضوعي: أن الولايات المتحدة، لم تنزع هذا المنزع الجديد ـ نسبيا ـ، من اجل العرب، ولا من اجل بني إسرائيل، فلئن وضع هذا الملحظ في الحسبان، فإن القاعدة الأثبت في هذا التحول النسبي هي: استعادة الولايات المتحدة لصورتها المتقبَّلة، ولمصالحها المجردة أو المستقلة، ودورها المتوازن. بيد أن شارون يتحدى ذلك كله، ويستخف به ويهدره .. ولا نقول بأنه يجب على الولايات المتحدة أن تتوصل إلى تصنيف امني وسياسي يقول (ان شارون هو عدو أمريكا رقم 1). فهذه قفزة غير مستطاعة من الناحية العملية، وان كان الرجل يستحق هذا الوصف من الناحية الموضوعية: بالمعيار الأمريكي نفسه.. فإذا تعذر هذا التصنيف فالحد الأدنى لتكييف الحالة هو: أن شارون مخادع لا يوثق به، ومتسبب في أضرار جسيمة لمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي، وصورتها في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وإلا فانه لأمر مذهل بل مفزغ بل مريب: أن (تجهل) دولة عظمى (عدوها)، ومصدر نكدها، وتشويه صورتها.. وهذه تهمة ألطف ـ على كل حال ـ من تهمة التواطؤ.