موريتانيا والعرب: حق الالتباس

TT

من بين كل التعليقات والتحليلات التي حفلت بها الصحافة العربية الأسبوع المنصرم حول موريتانيا (وما أكثرها وأقل فائدتها)، اقف عند مقالة الزميل محيي الدين اللاذقاني في عدد امس من «الشرق الأوسط»، وهي مقالة اتسمت بالطرافة على عادة اللاذقاني، وحملت انطباعات شعرية لطيفة عن مشاهد مثيرة شتى من بلاد شنقيط.

كنت قد كتبت في هذه الصفحة مرة عمن سميتهم المستكشفين العرب لموريتانيا، وعنيت بالمقولة ميل الكتاب والصحفيين العرب في كتاباتهم عن هذا البلد المغربي الأقصى إلى الاثارة والتهويل، وكأنهم يكتشفون عالما فريدا، غريبا، لا يشبه بقية العالم في شيء، ولا يترددون في اختلاق المعلومات والقصص لتكريس هذه الصورة.

ولست أضع إشارات اللاذقاني وعباراته في هذه الخانة، فمن حق الأديب إخضاع الوقائع والظواهر لإبداع الخيال. الأحرى أن مقالته تنضح، في ما وراء مسحة السخرية الطريفة التي تلفها، بمشاعر التودد للمجتمع الموريتاني وثقافته. ولذا فقد اختلفت المقالة مع الخطاب العربي السائد حول موريتانيا، الذي توقفنا عنده في مناسبات عديدة في هذه الصفحة، ويمكن إجماله في ثلاث مقاربات متمايزة، نشير إليها باقتضاب:

أولاها: التشكيك في عروبة موريتانيا وهويتها الإقليمية، والنظر إليها بصفتها دولة مستعربة هامشية جرتها أطماع المساعدة العربية إلى الانتماء لفضاء ليست منه، وهي من هذا المنظور بدأت تخرج منه وتتنكر له تقربا للولايات المتحدة وإسرائيل.

وغني عن البيان بالنسبة لمن له أدنى اطلاع على تاريخ البلاد ودورها القومي والحضاري المحوري زيف هذه المقاربة التي انتشرت على نطاق واسع بعد تطبيع موريتانيا علاقاتها السياسية مع إسرائيل، في إطار مسار التسوية الشرق أوسطية الذي سلكته بلدان عربية عديدة، وفق وتائر وصيغ متباينة. ومن الظلم، وربما سوء النية، تحميل الحلقة الأضعف والأقصى من النظام الإقليمي العربي مسؤولية يتحملها هذا النظام بأكمله، وخصوصا دول محورية فيه.

ثانيها: التشكيك في طبيعة الكيان الموريتاني وقدرته على الاستمرارية والبقاء، من منظور غياب تقاليد تاريخية للدولة المركزية وضعف إمكانات الدولة الناشئة وقدراتها، ونمط تركيبة البنية الاجتماعية القائمة على الانقسامية القبلية والتعددية الاثنية.

الواقع ان هذه المقاربة تنسحب على عموم الكيانات الوطنية الحديثة. وبخصوص الحالة الموريتانية فإنها تقوم على قراءة مغلوطة وزائفة للحقل السياسي ونمط تشكل الفضاء المدني الحديث وعلاقته بالمعطى القبلي، في بلد من أكثر البلدان العربية انسجاما ـ على عكس ما يظن ـ ولم تعد تؤدي فيه البنيات القرابية دورا محوريا في الشأن السلطوي.

ثالثها: يتميز المجتمع الموريتاني عن السياق العربي المألوف، وتفرده بميزات اجتماعية وبتقاليد ونظم وأعراف وخصائص ثقافية مثيرة وغريبة، كثيرا ما يتطرق لها الكتاب العرب من باب الاعجاب والتنويه، ولكن على حساب التشويه والإثارة والتهويل.

ولعل هذه المقاربة الثالثة هي الأكثر ورودا في كتابات الأدباء والصحفيين الذين زاروا موريتانيا في مطلع الستينات، ومنهم الأديب والصحفي اللبناني يوسف مقلد، الذي أطلق على البلاد اسم «أرض المليون شاعر».

ويعجب المرء عند المقارنة بين الكتابات العربية الهشة والضحلة حول موريتانيا، من جهة، والسيل المتواصل من الدراسات الرصينة والعميقة التي تتالت حولها في السنوات الأخيرة في الجامعات ومراكز البحوث الفرنسية. وأعيب على الزميل اللاذقاني بالمناسبة حصره لمراجع الشعر الموريتاني في كتابي «الوسيط» و«الشعر والشعراء في موريتانيا» حتى ولو كان المؤلفان من وسطي الأسري الخاص، إذ جرى في السنوات الأخيرة نشر عشرات، إن لم نقل المئات، من الدراسات والكتب والأبحاث الجامعية في الموضوع، في عدد من الدول العربية ولدى بعض كبريات دور النشر فيها.

والواقع ان المعلومات الواردة في مقالة اللاذقاني حول البلاد ليست بالجديدة، ولعلها تعود لمطلع الثمانينات، عند زيارته اليتيمة. وإذا غضضنا الطرف عن جزئيات بسيطة لعله أوردها على سبيل النكتة، مثل الشارع الوحيد المعبد والفندقين الصغيرين، وإن كانت المدينة الفتية لا تزال بسيطة رغم توسعها العمراني المذهل في الأعوام الأخيرة لمن يعرف مسار نشأتها على رمال المحيط، إلا أن نقطتين في المقالة تستدعيان وقفة مقتضبة.

أما النقطة الأولى فتخص العنوان الجميل الذي وظفه على نطاق واسع في مقالته: «تجليات سبارتاكوس الحزين»، مسهبا القول في «مأساة الحراطين» أي الفئات المتحدرة من أصول رق بعيد عن «آخر بلد ألغى العبودية في العالم». ولا أرى زميلنا العزيز إلا أصابته لوثة المستكشفين في حديثه المثير عن الأحرار الجدد الرافضين للحرية نتيجة للفقر وسوء الحال. وللتذكير، ليس من الصحيح ان موريتانيا لم تلغ العبودية إلا في الثمانينات، بل من المعروف ان هذا الإلغاء يعود، كما هو الشأن في جل البلدان العربية والافريقية، إلى مطلع القرن العشرين، عندما ألغى الاستعمار قانونيا هذه الظاهرة الاجتماعية التي لم تكن من خصوصيات المجتمع الموريتاني وحده، كما ان دستور الدولة المستقلة منذ سنة 1960 كرس هذا الإلغاء، وإذا كانت بعض المخلفات الاجتماعية لهذه الظاهرة التاريخية لا تزال ملموسة، فإن اختزالها في الصورة التي قدمها اللاذقاني بشكل أدبي مثير هو من التبسيط المخل وغير المقبول، لمعادلة معقدة ومركبة تختلط فيها رواسب الماضي الذي لا تتحمل مسؤوليته الأجيال الحاضرة ومعطيات الحاضر ذات الصلة بالحراك الاجتماعي والتنموي، ومخلفاتها هي في طور التجاوز بالتأكيد.

أما النقطة الثانية فتتعلق بصورة الإنسان الموريتاني التي اختصرها زميلنا في «الشنقيطية السمراء التاجرة والمتحررة» و«الرجل الانقلابي الكسول الحالم بالشقراوات»، وهي صورة نمطية مثيرة وزائفة، تنم عن عجز حقيقي عن فهم مجتمع معقد (على بساطته الظاهرة) لا يكشف أسراره لذوي النظرة الأولى.

وللتذكير، فإن آخر انقلاب في موريتانيا يعود لعشرين سنة، ولم تتجاوز حقبة الانقلاب في البلاد ست سنوات (1978 ـ 1984). ولم تكن محاولة الانقلاب الأخيرة إلا تمردا عسكريا محدودا ومعزولا داخل مؤسسة الجيش. ولعل موريتانيا من هذا المنظور من أكثر البلدان العربية استقرارا داخليا (أربعة رؤساء خلال ثلاث وأربعين سنة).

والرجل الموريتاني المفتون بسحر صحرائه، وبمقاييس الجمال البدوي، عرف عنه التصاقه بأرضه ووطنه، ولذا نادرا ما يهاجر طلبا للرزق، ولم تكن لتغريه شقراوات الكناري عن غادات شليشل والكنين، اللواتي تغنى بفتنتهن محمد ولد الطلبة وابن الشيخ سيديا.

ولا شك ان الزميل العزيز يعرف ان الشغل الأبرز للشناقطة ظل ولا يزال صناعة العلم ونشر اللغة العربية القويمة والثقافة الإسلامية في مجاهل وغابات افريقيا التي هجرها العرب الآخرون منذ قرون الفتح الأولى، كما انه يعرف ان موريتانيا من البلدان القليلة التي تتمتع بديناميكية اقتصادية واجتماعية متسارعة تنم عن حيوية أبنائها وانشغالهم عن مباهج شواطئ الكناري التي يترددون عليها باعة للسمك، ثروتهم الوطنية الأولى.

أما السمراء الموريتانية (وفي موريتانيا شقراوات أيضا) فليست دوما التاجرة الكسولة التي تعد كؤوس الشاي اللذيذة، فهي في الماضي السحيق متعلمة عالمة (على عكس ما هو قائم في أغلب المجتمعات العربية)، وأكتفي هنا بالإشارة إلى ان إحدى العالمات الموريتانيات في القرن الثامن عشر، وهي خديجة بنت العاقل، سطرت كتابا في المنطق الأرسطي في حقبة كانت فيه علوم المعقول قد توقفت في مراكز الثقافة العربية.

يبقى القول، في نهاية المطاف، ان ما يحتاجه الموريتانيون من الاخوة العرب هو قبل كل شيء إعطاؤهم الحق في الالتباس مع الآخرين، أي قبولهم بمزاياهم وسلبياتهم في محيط عربي عام، وهم بكل خصالهم وعيوبهم صورة مصغرة له، لا أكثر ولا أقل.