العراق بحاجة للتخلص من إدمانه على النفط

TT

كحال مروج المخدرات ها هي واشنطن تلزم نفسها بإنفاق المليارات من عوائد نفط العراق الذي لم يصدر بعد، أمام أعين العراقيين الذين يعانون الأمرين.

فنائب الرئيس، ديك تشيني يصف احتياطيات نفط العراق، التي تعد الثانية من نوعها على مستوى العالم، بأنها تمثل واحدا من «أبرز النقاط الإيجابية فيه». ووزير الخارجية كولن باول يعتبره «كنزا رائعا».

قد ينظر العراقيون إلى ذهبهم الأسود بأنه هدية من الله. لكن التاريخ يشير إلى أن آخرين اعتبروا النفط «نقمة الشيطان».

في أنحاء العالم، ها هي دول النفط التي كان يفترض أن تصبح مركزا للقوة، تعاني من مشاكل لا حصر لها. إذا، كيف تسنى للنعمة الالهية أن تصبح نقمة؟

كغيره من المواد المخدرة، يدفع النفط صاحبه لتجاهل المستقبل. وقد يبدو للوهلة الأولى ان امتلاك عوائد ضخمة من النفط امر رائع، لكن بعد المتعة تأتي الصدمة. فعوائد النفط المغرية تبعد رأس المال والعمالة عن قطاعات أخرى كالزراعة والتصنيع، وتصيب البلاد بما يعرف بـ«الوباء الهولندي»، الذي انتشر عقب اكتشاف هولندا للنفط وللغاز الطبيعي خلال الخمسينات، وتسبب في إلحاق الضرر ببقية قطاعات الاقتصاد.

وبالفعل، فإن فحوى التنمية الاقتصادية يشير إلى انه كلما اعتمدت الدولة على مواردها الطبيعية، كلما انخفض معدل التنمية فيها.

لكن في ما يتعلق بالحالة العراقية، فان مجرد قول «لا» للنفط لن يؤتي ثماره. وكما غذت أرباح النفط نظام صدام حسين البشع، يمكن للنفط أن يلعب دورا حيويا في تعافي اقتصاد العراق.

ولذلك فالسؤال يكمن في كيفية تمكين بغداد من عدم تحولها إلى مدمنة نفط أخرى؟

في البداية، لا بد من الفصل بين النظام الجديد والموارد الطبيعية. فإبعاد الحكومة المستقبلية في العراق عن تجارة النفط سيساهم في وضع حد للفساد الذي تعاني منه معظم اقتصاديات النفط الذي تدير شؤونه الدولة. ويمكن للحكومة العراقية الجديدة أن تلعب دورا محدودا في مجال النفط، فقط متى ما توفرت أجواء الشفافية وحكم القانون.

وثانيا، لا بد من ضمان استفادة الشعب من عوائد النفط. فمن فنزويلا إلى أنغولا وحتى إندونيسيا، يبدو ان أحوال مواطني الدول الغنية بالنفط تعد الأسوأ بكل المقاييس ـ سواء في ما يتعلق بدخل الفرد أو بفرص العمل أو التعليم أو الصحة ـ مقارنة بدول تعاني من شح الموارد الطبيعية.

صندوق التنمية الدولي، الذي تديره أميركا في العراق، يمثل بداية طيبة لمشروع تمويل إعادة بناء البنى التحية العراقية المدمرة من عائدات النفط. ويتوجب على واشنطن أن تستفيد من دروس التجارب الأخرى.

فصندوق النفط النرويجي، الذي بات الآن يضم أكثر من 100 مليار دولار، يساهم في التغلب على الظروف الاقتصادية الصعبة. ومن عوائد نفطها تنفق ولاية الاسكا على جميع سكانها سنويا. وتم تخصيص عوائد انبوب النفط الجديد في تشاد للرعاية الصحية وللطاقة الكهربائية وللطرق.

كانت جامعات العراق ومستشفياته وحقوله وطبقته الوسطى المغامرة، ذات يوم، موضع غبطة العالم العربي. وبإمكانها أن تستعيد مكانتها مجددا. ويتوجب على العراق أن يتبع النموذج الياباني وما فعلته «التنينات الأربعة الصغيرة» (كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة)، وهي دول حققت نموا عاليا باستثمار مواردها في تعليم وصحة شعوبها.

وثالثا، لابد من التنوع. فوفقا للبنك الدولي، تقوم الدول العربية مجتمعة، بسكانها البالغ عددهم 300 مليون نسمة، بتصدير سلع غير نفطية تقل عما تصدره فنلندة، التي يقل عدد سكانها عن خمسة ملايين نسمة. وبالمقابل فإن دولا مثل ماليزيا وإيرلندا تمتعت بنمو اقتصادي ناتج عن صادراتها الصناعية المنتعشة. كما تعمدت المكسيك تقليل اعتمادها على النفط، واتجهت لصناعات أخرى ولصادرات غير نفطية.

المجمعات الصناعية في العراق يمكن أن تشكل بذرة مستقبل قطاع التصنيع في منطقة الشرق الأوسط، ويمكنها أن تساهم في وضع أساس السلام والاستقرار في المنطقة.

وتلك هي رؤية رجل الأعمال الإسرائيلي ستيف ويرثيمر، الذي يتخيل «مشروع مارشال جديد» للمنطقة، يبدأ بالمجمعات الصناعية في الأردن التي لا تملك النفط، ثم بتركيا وفلسطين المستقبل، ويمضي وفقا لمشاريعه المشابهة في إسرائيل.

وقد قال لي: «عندما يتوجب على العرب والإسرائيليين الالتزام بمواعيد تسليم منتجاتهم التي سيصدرونها لليابان، فلن يتوفر لديهم الوقت المطلوب لمحاربة بعضهم البعض».

وأخيرا، لابد من الاستفادة من سلاح العراق السري ذي الدمار الشامل ـ الا وهو مجموع الملايين الأربعة من عراقيي الشتات، ومعظمهم من ذوي الكفاءات العالية والأعمال الناجحة، والذين عاد بعضهم إلى بغداد، بدعم من واشنطن، للقيام بأدوار سياسية.

على أن بعض عراقيي المنفى ممن قابلتهم هنا ـ في لندن ـ لا يبدون مدركين لمواهبهم الاقتصادية المحتملة. فهؤلاء المغتربون يمكنهم العمل كجسر يربط الاستثمار الأجنبي بوطنهم الأم.

هل يمكن للعراق أن يتحدى التاريخ ويصبح دولة تزدهر فيها الديمقراطية؟

قد لا يكون الأمر هينا. لكن إذا ما استخدمت عائدات «الكنز الرائع» النفطية بحكمة على المدى الطويل، فإنها قد تؤدي إلى وجود اقتصاد أكثر تطورا وتنوعا، يمكن من خلاله التخلص من عادة الاعتماد على النفط المحفوفة بالمخاطر.

ذلك ان مستقبل المنطقة سيعتمد على هذه المسألة.

* مؤسس ورئيس هيئة مختصة بشؤون الأمن القومي، وسبق له تولي رئاسة شركة أميركية متخصصة في التنقيب عن المعادن والكيماويات. وما تضمنه المقال يعبر عن رأيه الشخصي.