الجامعة المهمومة... وأمينها المحتار

TT

في كل مرة يضطرب الوضع السياسي العربي وتتقاطع المواقف، بحيث لا يعود واضحاً ما هو الموقف الصحيح وما هو الموقف الخاطئ، يستحضر القادة العرب من خلال وزراء الخارجية أمامهم الجامعة العربية، وتبدأ عملية لومها، وأحياناً لوم أمينها العام، وينتهي الأمر إلى تعليق كل التعثرات على هذا الكيان، الذي لم تستهدف نصال منظمة إقليمية أو دولية بمثل النصال التي استهدفته، وإذا كانت هذه النصال لم تتكسر على بعضها، فإنها تسببت للكيان المظلوم بالكثير من النزف المعنوي.

ومنذ القمة العربية الاستثنائية في القاهرة في أغسطس (آب) عام 1990، في أعقاب الاجتياح العراقي للكويت، وانقسام الصف محورين، بعدما كانت الانقسامات في الماضي ثنائية وتجد مصلحين لها، بدأت الجامعة العربية تعيش حالة شلل لا مثيل لها، وتشكل امتداداً لحالة سابقة تمثلت في إسقاط عضوية مصر في الجامعة العربية، ثم نقل مقر الأمانة العامة من القاهرة إلى تونس، واختيار أمين عام تونسي هو الشاذلي القليبي خلفاً للأمين العام المصري محمود رياض. ولقد حدث ذلك «التأديب» رداً على زيارة الرئيس انور السادات الى القدس ثم إبرامه، بعد الزيارة، اتفاقية «كامب ديفيد» بتخطيط متقن من الادارة الأميركية التي كانت في عهدة الحزب الديمقراطي ويترأسها جيمي كارتر. ولقد تبين بعد ذلك ان الدول الأعضاء استعجلت قرار «التأديب» الذي لا مبرر له، لأن هيبة الجامعة اهتزت وباتت عرضة للمؤاخذات، وفقدت دوراً كان من الممكن ان يقوم به أمينها العام الذي بات هو الآخر مجرد موظف عربي كبير المقام لكنه مسلوب الشأن.

وطوال ربع قرن أعقب الصدمة الأولى التي ألحقتها الدول العربية بالجامعة، لم تستطع هذه المنظمة أن تؤكد الدور المطلوب منها. وحتى بعدما استعادت مصر العضوية واستعادت المقر ومصرية الأمين العام، واختارت الدكتور عصمت عبد المجيد ليكون هو الأمين العام، بقيت الجامعة متأثرة بالصدمة الأولى التي أصابتها، ووجد د. عصمت نفسه لا يستطيع ترميم الصف العربي الذي بات محورين: المحور الذي لا يغفر لنظام الرئيس صدام حسين ما فعله في الكويت وبها، والمحور الآخر الذي يجمع بين التعاطف مع النظام الذي دفع الثمن الباهظ نتيجة الغزوة التي قام بها، وبين التفهم الضمني لموقف دول المحور الآخر. ولو أن مصر كانت محايدة وليست من ضمن المحور المشار إليه لربما كانت الجامعة أنجزت بعض الأمور على صعيد توحيد الصف من خلال الالتقاء على بعض الجوامع المشتركة. ومن هنا نرى أن المصالحات التي تمت بين بعض دول محور التعاطف مع ما أصاب العراق وبين الكويت، استغرقت أكثر مما ينبغي من الوقت، وهذا سببه أن الجامعة العربية المفترَض فيها تحقيق أجواء المصالحات كانت جزءاً من المحور الذي لا يغفر.

بعد تسع سنوات من مراوحة الوضع العربي على ما هو عليه، قرر القادة العرب أن تكون هنالك قمة عربية دورية، وهذا يعني أن إمكانية مشاركة العراق فيها باتت متوافرة. ثم قرر القادة العرب أن يتم فتح بعض النوافذ على العراق وأن تُعطى الجامعة دوراً استطلاعياً لا يكون فيه أمام الأمين العام مجال للاجتهادات الشخصية. وعندما أطرى معظم القادة العرب، في قمتهم الدورية الثانية، اختيار الرئيس حسني مبارك لوزير خارجية مصر لكي يكون هو الأمين العام، وكان اطراؤهم سابقة غير مطروقة، فعلى أساس ان الإطراء هو بمثابة تكليف للأمين العام الجديد المتجدد بالمهمة الاستثنائية التي هي الدور الاستطلاعي. ما حدث هو أن عمرو موسى، الذي لا يمكنه أن يكون تقليدياً وتلك حاله طوال سنوات ترؤسه للدبلوماسية المصرية، خرج في نظر بعض القادة العرب على النص، كما يقال في عالم المسرح، فلم يعد مستطلِعاً كما يريدونه، وإنما على درجة من ممارسة الاجتهادات على نحو ما يريد لنفسه. وهكذا وجد الرجل نفسه فجأة حائراً بين «متهَم» يحتاج إلى من يدافع عنه، ومشتت الذهن يحاول من جهة احتواء «التمرد» الليبي على الجامعة والإكثار من التلويح بالرغبة في الانسحاب منها، ويسعى من جهة اخرى لمواجهة عاصفة «الطوز السياسي» الكويتي التي استهدفت شخصه وليس جامعته ووصلت إلى حد القول إنه مجرد موظف و«... إن الجامعة جامعتنا». ولقد استلزمت مواجهة عمرو موسى لـ«المفاجأة الكويتية العاصفة» جولات واتصالات وتمنيات أثمرت مهادنته، في انتظار أن تكون هنالك رؤية جديدة للجامعة كياناً وأميناً عاماً ودوراً وميثاقاً وموظفين وأفكاراً مستقبلية ونوعية علاقة مستقيمة بينها وبين الدول الأعضاء. وذلك ما دار البحث في شأنه خلال أول اجتماع عربي موسع تلا القمتين المصغرتين اللتين استضافهما الرئيس جورج بوش الابن في كل من شرم الشيخ والعقبة. وهذا الاجتماع عقدته في المنامة عاصمة القمة العربية الدورية الثالثة يوم الثلاثاء 10 يونيو (حزيرن) الجاري «لجنة المتابعة العربية» التي تضم وزراء خارجية مصر والسعودية وسورية والبحرين وفلسطين وليبيا والسودان وتونس والمغرب ولبنان وقطر. وخلال إحدى الجلسات، تناول رؤساء الدبلوماسية العربية موضوع الجامعة بإيجاز، وذلك لأن القضية الأساسية التي أمامهم كانت «مفاجآت» القمتين البوشيتين في شرم الشيخ، ثم في العقبة، وما تلا هذه المفاجآت من تداعيات على الساحة الفلسطينية. والجديد في الأمر أن المجتمعين الذين فشلوا في إصدار بيان حول القمتين اللتين من أجلهما اجتمعوا، اناروا الضوء الأخضر أمام الأمين العام الذي قال لهم ما معناه، إنه قد آن الآوان لكي تكون جامعة الدول العربية ذات حيوية وفعالية مثلها مثل سائر المنظمات الدولية. وطلبوا منه أن يقدِّم بعد شهر إلى اللجنة تقريراً في ما يريده، وفي ضوء أفكار ومشاريع ومقترحات كثيرة سبق لدول أعضاء أن تقدمت بها أو أشارت إليها، لعل أبرزها مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بعد رؤية الرئيس المصري حسني مبارك.

ما يريدون من عمرو موسى أن يقدِّمه جاهز. وهم لو طلبوا منه خلال الاجتماع في المنامة أن يعرض التقرير لكان سحبه من حقيبته. لذا لن ينشغل الأمين العام الحائر في أمر الدول الأعضاء معه ومع «جامعته» في إعداد التقرير المطلوب.. أو ربما ان الأمر لن يحتاج منه إلى أكثر من إعادة ترتيب أفكار لا أكثر، ناشئة عن الأجواء التي نتجت عن القمتين البوشيتين، وعن محاولة الانقلاب العسكري العربي الأول بعد طول انقطاع، وهي التي كادت تعصف بالنظام الموريتاني الذي استعجل التطبيع مع إسرائيل فتحركت بسبب هذا الاستعجال شجون بعض الضباط الوطنيين والطامحين في الوقت نفسه، وكانت المحاولة الانقلابية التي استغرقت يومين، والتي أدانها عمرو موسى وعلى نحو الإدانة المألوفة من جانب أهل السلطة الوطنية الفلسطينية للعمليات الاستشهادية التي اشتهرت بها حركة «حماس»، والتي صادف أن أحد أبرز قادتها الدكتور عبد العزيز الرنتيسي تعرَّض يوم كان وزراء الخارجية العرب يعقدون جلستهم الأخيرة في المنامة لمحاولة اغتيال، بواسطة طائرة «أباتشي» إسرائيلية وكادت تودي بحياته... من دون أن تعني نجاته ان الشظايا لم تصب مضمون القمتين اللتين كانتا الموضوع الرئيسي على بساط البحث في لقاء المنامة. ثم جاءت العملية الاستشهادية في القدس يوم الاربعاء 11 يونيو (حزيران) ورد الفعل الاسرائيلي الشرس بطبيعة الحال لتجعل القمتين ومعهما «الخارطة» البدعة نسياً منسياً. والله أعلم.