سياسة الولايات المتحدة بين الخلط والأخطاء والارتباك

TT

تتحكم في تدبير الشؤون السياسية ضوابط وقواعد علمية على السياسي ومن يملك القرار أن يتقيدا بها بعناية ودقة وتمحيص، وإلا وقعا في الارتباك السياسي أو اللامنهجية السياسية.

والسياسة ـ سواء اعتبرناها علما أو فنا ـ لا تُدار إلا بامتلاك رجل السياسة الكفاءة السياسية التي لا يتوفر عليها السياسي بالدراسة والتكوين فحسب، ولكن أكثر من ذلك بتراكم التجارب السياسية من خلال ممارسة العمل السياسي بالعقلانية واستمرار التعامل مع الشأن السياسي بالحكمة مرارا وتكرارا حتى يمتلك بالتجربة المستديمة مَلكَةَ التصرف الجيد في السياسة بما يجعل نجاحه في امتحانها الصعب أوفر حظا من فرص الفشل والاخفاق.

القائد السياسي يجب أن يؤمن بأن السياسة عالم المتغيرات، وحقل المفاجآت، ليمخَر عُبابَها الصاخب بعد سبره أغوار الحدث السياسي بما له من أسباب ومسببات، وما وراءه من خلفيات، وما يترتب على التعامل معه والتصرف فيه من عواقب وتداعيات. ومن أجل ذلك فإن تدبير الشأن العام ـ على الصعيدين الداخلي والدولي ـ أصعب أنواع تدبير الشأن العام على الإطلاق.

والمجال السياسي أكثر المجالات تعرضا للأخطاء التي يتولد عنها بالتراكم الخلط المؤدي بدوره إلى الارتباك السياسي، أي إلى الخبط الأعشى في عالم السياسة عندما يفقد السياسي وضوح الرؤية، ويسقط في متاهات السياسة المحفوف طريقها بالأشواك والموصدة أبوابها، فلا يجد له مخرجا منها وحينئذ يصبح سياسيا فاشلا.

قيل عن الرئيس الأميريكي الحالي «بوش» عندما كان يخوض معركة الانتخابات الرئاسية، إنه لا يملك كفاءة سياسية لأنه لم يجرب التعامل مع الشأن السياسي قبل ترشيحه. وخيف عليه من ارتكاب الأخطاء والوقوع في متاهات السياسة. لكن قيل كذلك إن الرئيس سيحيط نفسه بكفاءات يختارها بعناية فائقة من ذوي التجارب لمساعدته في المهام الصعبة التي تنتظره. بيد أن الرئيس دشن أخطاءه بسوء اختياره مستشاريه ومساعديه الاقربين اليه عندما وضع على رأس وزارة الخارجية جنرالا متقاعدا، وأعطى لوزير الدفاع دوراً سياسياً خطيراً لم يكن يمارسه أي وزير دفاع سابق. وهو ما أحدث بين الوزيرين نزاعا على السلطة تجلى في خلافهما على التعامل مع حرب الإرهاب وحرب العراق.

وكان الرئيس «بوش» يعلم أن سلفه الرئيس «كلينتون» ترك له بالبيت الأبيض أخطر ملف سياسي ساخن: هو مشكل الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي كان «كلينتون» يشرف عليه بنفسه مباشرة، وكان على الرئيس «بوش» أن يواصل مساعيه الحميدة لحله. لكنه ارتكب الخطأ الكبير عندما أعاد ترتيب الملفات ونحى الملف العربي ـ الاسرائيلي عن أولوياته، وتبنى بشأنه الأطروحة الإسرائيلية بنفس خطاب شارون. وكان مرد هذا الخطاب إلى خطأ أكبر سبقه عندما اختار الرئيس مستشاريه إما من يهود، أو من أميريكيين مساندين للأصولية اليهودية، يمثلون اللوبي الإسرائيلي أكثر مما يمثلون المصالح الأميريكية الحق. وطبعا فإن هؤلاء المستشارين لم يكن منتظرا منهم أن ينصحوه باختيار بعض مستشاريه من العرب الأميريكيين لتوفير عملية توازن في مهمة مستشاري الرئيس. ولا يوجد للرئيس إلى اليوم أي مستشار عربي أميريكي لا من بين المسلمين ولا المسيحيين.

وعندما ضرب زلزال الإرهاب نيويورك سقط الرئيس في الخطأ الفادح عندما نسب مستشاروه جريمة الإرهاب إلى الإسلام كدين وحضارة، وألصقوه خاصة بالمملكة العربية السعودية بذريعة أن الذي تولى كِبْر الجريمة سعودي اسمه بن لادن. وقصدوا أن لا ينبهوا الرئيس إلى أن الإرهابيين المنتشرين في العالم ليسوا جميعا من المسلمين، وأن بن لادن منشق سعودي ومناهض لنظام بلاده. وترتب على ذلك مطاردة العرب والمسلمين حتى المواطنين الأميريكيين منهم. كما نسف هذا التقييم الخاطئ للإرهاب (حتى لا نصفه بالمغرض) قواعد التحالف الأميريكي مع العواصم العربية والإسلامية التي أصبح الرئيس ينظر إليها على أنها موطن الإرهاب أو أنها جميعا مرشحة لتحولها إلى منطلقات إرهابية.

وإنه لخطأ فادح أن لا يميز الساسة الأميريكيون بين حفنة من الإرهابيين من مختلف الجنسيات وبين إرهابيين ينتمون إلى دول ارتبطت بالولايات المتحدة برابطة التحالف المتين منذ نشأتها وقدمت للولايات المتحدة على الوفاء لتحالفها من الشواهد ما يجعلها لا يتطرق إليها الشك والارتياب. وقد أدت الولايات المتحدة ثمن هذا الخطأ غاليا عندما ارتكبت سياسة التدخل المباشر لإنجاز ما سمته بإصلاح المناهج التربوية في أقطار الإسلام، وتجرأت فضغطت على مخاطبة بعض الأقطار الإسلامية بنصحها بمراجعة أسس عقيدتها الدينية، وكان ذلك أكبر أخطاء البيت الأبيض على الإطلاق.

لقد كان من بين أخطاء البيت الأبيض أيضا، الأسلوب الذي استعمله لفرض تفرد الولايات المتحدة بالشأن العام الدولي على حساب حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها وتميز باستبعاد جميع القوى والمنظمات السياسية العاملة في المجال الدولي، وفي طليعتها تهميش دور الأمم المتحدة أو تقليص دورها. ولا يعني ذلك إلا أن مستشاري الرئيس الذين زينوا له هذه الخيارات أوقعوا الولايات المتحدة في خانة العزلة حيث أصبحت الدولة العظمى التي يخاف الجميع من أطماع نفوذها التوسعي ولا يوحي التعامل معها بالاطمئنان، وفي بعض الجهات غذَّى ذلك شعورَ كراهيتها.

وعندما اختار خبراء البيت الأبيض تقييم حقيقة الإرهاب بمفهوم خاطئ، وساعدوا على الخلط بين هذا المفهوم ومفهوم مقاومة الاحتلال المشروعة، وقعوا في أحبولة إسرائيل التي استمرأت هذا الخلط ووظفته لإعطاء إرهابها (إرهاب الدولة) مشروعية زكاها الرئيس الأميريكي وأعوانه الكبار المسؤولون. وبذلك أصبح الرئيس الأميريكي غير مؤهل للإشراف على عملية السلام، لأنه بإسناده المطلق عن كل قيد لإرهاب إسرائيل واعتباره مجرد دفاع عن النفس، فقد صفة الراعي العادل الذي يمسك العصا من وسطها، وغدا في قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي خصما وحكما. وهذا ما يرشح للإخفاق مصير خريطة الطريق التي حرص على أن يستأثر بها ويجعل منها خطته للسلام.

هذه الأخطاء ـ وغيرها كثير ـ تطبع اليوم سياسة البيت الأبيض بالارتباك الذي يتجلى في التعامل الدولي، إذ يتقدم البيت الأبيض بخطوات محسوبة لإصلاح ذات البين مع الأقطاب التي عارضت الحرب دون أن تؤشر خطواته إلى أخذه بخيار المصالحة الكاملة وخيار تصحيح الخطأ. كما تجلَّى قبل ذلك في إدارته «الملخبطة» لحرب العراق من خلال أزمة اختناق الأنفاس التي عرفتها مداولات مجلس الأمن، حيث فشل البيت الأبيض في انتزاعه قرار الشرعية منه لحرب العراق. وتجلى ذلك أيضاً فيما تعانيه الإدارة الأميريكية بالعراق هذه الأيام من مقاومة للاحتلال الذي لم يكن البيت الأبيض يسميه بهذا الاسم، ويفضل عليه مصطلح تحرير العراق، ثم تراجع ليقول إن ما يجري على ساحة العراق هو احتلال لا شك ولا ريب فيه.

وارتباك السياسة الأميريكية ينعكس أكثر على مجريات الأحداث في فلسطين. لقد كان الرئيس الأميريكي «عزل» بقرار مشترك بينه وبين شارون الرئيس الفلسطيني المنتخب بالاقتراع الديمقراطي. واليوم يضغط عليه وزير خارجية الولايات المتحدة لينزل بثقل شرعيته لحمل المقاومة الفلسطينية على قبول الهدنة. والرئيس «بوش» يدعم رغبة شارون في أن تقع هدنة ولو لأيام معدودات مع المقاومة المسلحة الفلسطينية التي صنفتها إسرائيل والولايات المتحدة في خانة الإرهاب الدولي إلى حد القول إنه دخل اليوم في حرب ضد حماس، وإن قوات المراقبة الأميريكية التي ستكون ضمن هيأة مراقبة الأمم المتحدة في كل من إسرائيل وفلسطين ستضرب منظمة حماس في عقر دارها لتضع حدا للإرهاب. وهو يستنكر محاولة اغتيال الرنتيسي، ثم يتراجع بعد ساعات تحت ضغط اللوبي الإسرائيلي.

إنه الارتباك: فهل تنْقَشِع سحبه المظلمة عن رؤية مضيئة؟