ضرورة لا مفر منها: قيادة أميركية لتطبيق خريطة الطريق

TT

يبدو ان كل لحظة امل للشرق الاوسط تأتي بثمن تصعيدي للعنف، ومع ذلك فمن المهم الحفاظ على الرؤية: العمليات الدموية الاخيرة لم تأت يأساً من عملية السلام، بل باصرار من جانب حركة حماس لخلق اليأس تجاه قوة الدفع التي تولدت بزيارة الرئيس جورج بوش للمنطقة. في قمة شرم الشيخ التي جمعت الرئيس بوش مع عدد من الزعماء العرب، شجب القادة العرب الارهاب وتعهدوا بإنهاء الدعم لكل تشعباته. رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، محمود عباس، تخلى علناً عن العنف. وبعكس ياسر عرفات، قال تعليقاته التصالحية بالعربية حتى يفهمه مواطنوه. في المقابل، رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون وصف الوجود الاسرائيلي في الضفة الغربية بانه «احتلال» مما يعني تنصلاً من ادعاء ضم ما يعتبره كثير من الاسرائيليين ارضهم التوراتية. كل الاطراف التزمت ـ بنسب قناعة مختلفة ـ بوثيقة تضم اربعين خطوة متتابعة يتم القيام بها في ثلاث مراحل. اعدت الوثيقة من قبل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الاوروبي ومندوب عن الأمين العام للامم المتحدة، واطلق عليها اسم «خريطة الطريق»، ومن المقرر ان يراقب تنفيذها من قبل اللجنة الرباعية التي صاغتها. من المؤكد ان بعض تلك التصريحات والتعهدات سمعت من قبل، خصوصاً في الفترة التي تبعت توقيع اتفاق اوسلو. وبعض التصريحات يراد لها ان تكون غطاء لتقاذف المسؤولية بالفشل الحتمي المتوقع. الحقيقة تبقى بأن التعهدات كانت عريضة وقدمت بحضور بوش الذي تعهد بتتبع التطبيق. على الرغم من ذلك، علينا التنبه بألا نبالغ في معاني «خريطة الطريق». انها ليست وصفة لحل عقدة الشرق الاوسط، بل هي تمثل حلاً وسطاً معقولاً لاهداف عامة. هذه الاهداف تبدو وكأنه من الممكن تحقيقها من كل طرف على انفراد ولكن في وقت متزامن. والواقع ان «خريطة الطريق» لا تضع نهجاً توضيحياً، او نظاماً للمرجعية، او حتى تتابعاً للمهام في كل مرحلة. الصياغة تتجه للتعميم، فمثلاً في ما يتعلق باللاجئين، تطالب الخطة بتسوية «عادلة وقانونية وواقعية». بالنسبة للفلسطينيين فان «تسوية عادلة وقانونية» تعني عودة معظم اللاجئين، وبالنسبة للاسرائيليين فإن «تسوية واقعية» تعني على الاغلب عودة رمزية للاجئين. المفاوضون سيمضون في عملهم عبر هذه العموميات مدعمين بعناصر ايجابية تضمن الديمومة. ولعل ابرز تغيير في المنطقة هو ما انجزته السياسة الاميركية عبر التخلص من العراق كقوة عسكرية مميزة، وهو ما ازاح لفترة مهمة مقبلة احتمال قيام حرب تقليدية بين العرب واسرائيل. الاصرار الاميركي على قيام السلطة الفلسطينية بافراز مفاوض اكثر تمثيلاً ومسؤولية من عرفات، وفر المساحة والاطار لاضعاف بنية الارهاب في الضفة الغربية. هذه العوامل مجتمعة شجعت شارون على تقديم عرض بازالة المستوطنات التي اقيمت مخالفة للقانون الاسرائيلي، وان يوافق على اقامة دولة فلسطينية «متواصلة» المناطق ـ وهي كلمة السر لفتح حوار حول مستقبل للمستوطنات يتماشى مع هذا الهدف. الطرفان لديهما الاسباب الذاتية لمراجعة مواقفهما السابقة. الفلسطينيون، وكما قال محمود عباس، تحملوا خسائر جسيمة واعاقة تامة لاقتصادهم. اسرائيل تعلمت ان عاملي الوقت والديموغرافيا يهددان بقاءها، لان كثافة عربية سكانية سريعة النمو تعيق فرص دولة يهودية وديمقراطية في آن واحد. ثم ان ضم نسبة كبيرة من الضفة الغربية لم يعد عملية في صالح اسرائيل. لهذا، تتوفر كل الاسباب لتقدم عملية السلام العربية ـ الاسرائيلية، هذا اذا كانت الامور ترتبط بالاسباب اصلاً. لكن الاسباب يجب ان تراعي الكراهية المتأصلة، والخلافات التي تتكرر منذ جيلين. الطرفان لا يزالان يختلفان حول التعريفات المتعلقة بالأمن والحدود واللاجئين والقدس. المشكلة الأشد هي عمق انعدام الثقة بين الاطراف. الفلسطينيون يعتقدون أن اسرائيل تهدف الى تحجيم الدولة الفلسطينية في مجموعة جزر محاطة بمناطق اسرائيلية وتتخللها طرق اسرائيلية. باختصار، دولة لا تختلف عن الحكم الذاتي المحدود. هذا التعريف يجد دعماً في تصريحات شارون على مدار السنوات. ولهذا كان استعمال الرئيس بوش كلمة «متواصلة» في وصفه لمناطق الدولة الفلسطينية المزمعة، مفصل التأثير. هذا الوصف يحمل معنى ان المستوطنات التي ستبقى في مناطق الدولة الفلسطينية ستكون تحت الادارة الفلسطينية، هذا اذا امكن بقاؤها هناك.على الجانب الآخر، معظم الاسرائيليين مقتنعون بأن أي اتفاق يعني للفلسطينيين مجرد مرحلة على طريق التخلص النهائي من اسرائيل. الاعلام والكتب العربية والفلسطينية، والتلفزيونات العربية والفلسطينية، تتعامل مع اسرائيل ككيان غير شرعي يجب تخليص العالم العربي منه. الفلسطينيون لم يعترفوا ابدا، باخلاص، بحق اسرائيل في البقاء. في كل البلاد العربية ـ بما فيها فلسطين ـ هناك ربما اغلبية من المجموعات لن تعترف بشرعية اسرائيل، حتى بعد الحل الشامل. عدد قليل من الدول العربية اعترف باسرائيل، والقلة التي فعلت ذلك ـ مثل مصر ـ خففت العلاقات الدبلوماسية الى عدمية مضحكة. بالاضافة لذلك، وبينما قامت خريطة الطريق بدور فعال في تحريك العملية، فان الرباعية التي اعدت الوثيقة ليست هي الاطار المثالي، في نظر الولايات المتحدة، لمتابعة الخطة. فحسب خريطة الطريق، على الرباعية الاجتماع دورياً لمراجعة وتقييم العملية واقتراح الاجراءات على الطرفين في مواجهة الصعاب. لكن رؤية الاطراف الاخرى لخريطة الطريق (الاتحاد الاوروبي، وروسيا، والامم المتحدة) هي فرض تفسيرها للخطة بواسطة الضغط الاميركي. هذا يشمل عودة اسرائيل لحدود 1967 مع تعديلات طفيفة جداً، والنتيجة تخلي اسرائيل عن كل ـ او تقريباً كل ـ المستوطنات التي اقيمت منذ ذلك الحين، وتقسيم القدس، وعودة بعض الفلسطينيين حسب تفسير عودة اللاجئين، ونهاية للارهاب. وفي الواقع لن يمكن التقدم بلا ضغط من الاميركيين، لكن لا يمكن الطلب من اميركا ان تكسر ظهر اسرائيل الفعلي وان تخاطر بوجودها كدولة مستقلة. عسكرياً فان الطرف الاقوى وبتميز هو اسرائيل، ولكنها ديموغرافياً واستراتيجياً في وضع لا تحسد عليه. ولأنها عاشت معظم حياتها غير معترف بها من الجيران، وكانت عرضة للارهاب المنظم، ومحاطة بدول تعتبر ذاتها في حالة حرب معها، وتعرف انها عرضة لحملة اعلامية مناهضة لوجودها في كل العالم الاسلامي، فان اسرائيل لن ترهن نجاتها بتعهدات وضمانات من دون اعتراف واضح بمتطلباتها الامنية. لقد عرفت كل رؤساء ووزراء اسرائيل منذ غولدا مائير، ولا احد منهم يقر بامكانية الدفاع عن حدود 1967، ولا توجد حكومة اسرائيلية مقبلة يتوقع ان تحيد عن هذا الاستنتاج. لم تقر أي حكومة اسرائيلية ابدا ـ بشكل رسمي ـ بالتنازل عن أي مستوطنات سمح بها، وهي تضم سكاناً بنسبة تزيد على خمسة في المائة من اليهود في كل فلسطين. ولن توافق أي حكومة اسرائيلية على عودة اعداد مؤثرة من اللاجئين الفلسطينيين، او حتى عودة أي منهم.اذا تم الزام اسرائيل بشروط كهذه، فقد يؤدي الامر الى التدمير الفعلي لقدرة الدولة بالاعتماد على الذات قد يفقد السكان ثقتهم، وبعضهم قد يبحث عن مستقبله في مكان آخر. واسرائيل المكسرة قد تتحول الى دولة عالة تابعة تبحث عن الامان في كل عاصفة، وتفقد تدريجياً قدرة الوقوف على قدميها، وبالتالي تصبح ثقلاً على العلاقات الاميركية ـ العربية، وتؤثر عليها سلباً مع الزمن. ان القيادة الاميركية القوية والحاذقة اوصلت الامور بحساسية الى هذه النقطة، وعليها بالمقابل مواصلة الملاحة في المرحلة المقبلة من خلال ما يلي:

ـ على الولايات المتحدة اقناع العالم العربي ان الارهاب ليس استراتيجية، ولكنه نهاية الطريق، ولا يمكن الاحتفاظ به كاحتياط عبر هدنة. ولكن يجب التخلص من الارهاب وتدمير بنيته كشرط مسبق لتقدم ملحوظ في العملية السلمية.

ـ يجب اقناع اسرائيل ان تضحي من اجل السلام بأكثر مما عُرض حتى الآن، بما في ذلك التنازل عن بعض المستوطنات.

ـ الدول الاخرى المؤيدة لخريطة الطريق، وكذلك حلفاء واشنطن، يجب افهامهم ان دورهم الأهم هو تشجيع الطرفين على تسوية توازن بين التضحيات. ان مبادلة الارض بالاعتراف ـ وهي عملية لا يمكن التراجع عنها اذا تمت ـ لا تقدم ذلك التوازن المطلوب. من خلال احساسه بأهمية الوصول الى مفصلية المشكلة، اختصر الرئيس بوش القضية في أساسين: انهاء الارهاب في الطرف العربي، وانهاء اقامة مستوطنات جديدة في اسرائيل والحد من المتواصل منها. وفي هذا الصدد فان انهاء الارهاب يجب ان يتجاوز اعلان الهدنة، كونها تبقي التهديد حياً، والوصول الى تفكيك اسس البناء الارهابي. في الوقت ذاته، على اسرائيل اخذ رؤية الرئيس لدولة فلسطينية متواصلة بجدية. وهذا لا يعني فقط انهاء المستوطنات الجديدة، ولكن الحد مما هو موجود لتنفيذ الوعد بدولة فلسطينية متواصلة.الاستنتاج العملي هو ان هدف خريطة الطريق بالتوصل لحل نهائي مع حلول عام 2005 غير قابل للانجاز. فمن غير المتوقع ان رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد المتنازع مع عرفات سيكون في وضع، أثناء المرحلة المبكرة لخريطة الطريق، يعلن فيه التنازل عن حق الفلسطينيين في العودة الى مناطقهم الاصلية. (الاستطلاعات الحديثة تؤكد ان 97 في المائة من اللاجئين في المخيمات يرفضون حق السلطة الفلسطينية في التعامل مع قضية اللاجئين اصلاً). كما انه من غير المتوقع ان اسرائيل ستوقع على اتفاق نهائي لا يشمل هذا البند، او انها ستوافق على ترحيل مواطنيها من المستوطنات قبل فترة اختبارية من دون ارهاب. هذا اذا وافقت على ذلك اصلاً. واذا لم يكن من المستطاع التوصل للسلام في الاطار الزمني المحدد ضمن خريطة الطريق، فانه من الممكن اقامة دولة فلسطينية مؤقتة كما هو مقرر في المرحلة الثانية من الخريطة. لن يكون الهدف سلاماً نهائياً، وهو تطلع شرعي، وانما تعايش لا بد منه كمقدمة للسلام. ان مفاوضات ملائمة للجدول الزمني في خريطة الطريق يمكنها التوصل لاقامة دولة فلسطينية في كل المناطق التي كانت مدارة فلسطينياً حتى سبتمبر (ايلول) 2001. في المقابل سيكون على الدولة الفلسطينية الجديدة ان تنهي التحريض على الارهاب في كل إعلامها العام وفي المدارس، وان تقوم بعمل فعلي لتدمير بنية الارهاب، لا ان توقف عملياته فقط وإنما تحافظ على التهديد به. ان دولة فلسطينية كهذه يمكنها ان تختبر احتمالات الحياة الى جانب اسرائيل، ويمكنها ان توفر الفرص لتطوير حياة طبيعية للشعبين. ومن جهتها تستطيع الرباعية التعهد بأن حلا كهذا ليس نهائياً، وان المرحلة الثالثة من «خريطة الطريق» ستحل قضايا اللاجئين والقدس واقامة الحدود النهائية التي تحسن الامن في مناطق اقل حساسية، وربما اعادة بعض السكان الفلسطينيين الموجودين الآن في اسرائيل الى مناطق الحكم الفلسطيني.في هذه الاثناء يجب بذل جهود حثيثة للتخفيف عن اللاجئين. فالذين في المخيمات يمكن استيعابهم في الدولة الفلسطينية الجديدة، او في بعض الدول العربية الاخرى ضمن عملية مدعمة وممولة بمبالغ كبيرة من الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية. وفي الاتجاه ذاته يتم اثناء اتفاق مرحلي كهذا العمل على ايجاد حل لقضية المستوطنات الاسرائيلية التي ستجد نفسها داخل التواصل الفلسطيني. هذا هو افضل، وربما الطريق الوحيد، لاختبار فرص السلام النهائي.

* وزير الخارجية الأميركي الأسبق ـ خدمة «تريبيون إنترناشيونال» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»