من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير

TT

عندما دُمر الهيكل، وتشتت بنو إسرائيل في أصقاع الأرض، كان الظن بأن اليهودية قد انتهت بضياع مُلك داود وسليمان، ولكن الذي حدث هو أن اليهودية ترسخت بهذا الحدث، فسُجلت التوراة ودون التلمود خلال فترة الشتات تلك. واليوم، هناك من طوائف اليهود من يعتقد أن قيام دولة إسرائيل هو تدمير لليهودية، وليس إعادة بعث لها. فالصهيونية، أي اليهودية مسيسة، وفق اعتقاد هؤلاء، تشويه لليهودية، واختزال لها في التحليل الأخير، وذلك حين تنقلها من حيز الدين الخالد، إلى حيز الإيديولوجيا الوقتية بالضرورة. وبسقوط روما بيد القبائل الجرمانية الغازية عام 410، ظن الكثيرون أن ذلك الحدث يمثل نهاية المسيحية، ولكن الذي حدث هو أن تلك القبائل تنصرت، وكانت حتى مغالية في نصرانيتها. وعندما سقطت بيزنطة بيد العثمانيين عام 1453، ظن الكثيرون أن المسيحية قد اندثرت في المشرق، ولكن الذي حدث هو استمرار المسيحية في المشرق حتى يومنا هذا. بل وربما كان سقوط بيزنطة أحد الدوافع التي أبقت المسيحية حية في المشرق. وعندما دمر هولاكو بغداد عام 1258 م، 656 هـ، وقتل آخر خلفاء بني العباس في بغداد المستعصم بالله، ظن الكثيرون في وقتها أن تلك كانت نهاية الإسلام ولن تقوم له قائمة بعد ذلك. ولكن الإسلام لم ينتهي في تلك اللحظة، بل استمر رغم كل الظروف بعد ذلك، حتى أن الغزاة من التتار أنفسهم أسلموا في النهاية، بمثل ما تنصرت القبائل الجرمانية. استمر الإسلام ليس لأن الخلافة وفكرتها استمرت بعد ذلك، سواء في المغرب أو مصر أو غيرها، ولكن لأن الإسلام بقي ديناً يُعتقد في القلوب، وثقافة تحدد السلوك، وهنا تكمن عظمة الدين. واليوم يمر على الإسلام أكثر من أربعة عشر قرناً منذ أن انبثق في جزيرة العرب، وما زال حياً في القلوب ومهيمناً على السلوك، قبل أن يكون ذلك شعاراً للحركات والتيارات التي تستثير به العامة، وتهدد به الخاصة.

أربعة عشر قرناً مر فيها من الأحداث والتقلبات والتحولات الشيء الكثير على عالم الإسلام والمسلمين، ومع ذلك بقي الإسلام صامداً ومُمارساً. تتار وصليبيون واستعمار وأنظمة قهر لم تؤثر في النهاية قيد أنملة على الإسلام من حيث الوجود، ولا على المسلمين من حيث الممارسة. بل وعلى العكس من ذلك، كانت قوة الإسلام وترسخه في الأفئدة والقلوب تزداد وتتنامى، كلما كان التحدي أكبر، وكلما كانت الأحداث أقوى. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا كان ذلك؟ أي لماذا كان هذا الظن بنهاية الإسلام في لحظة سقوط بغداد؟ ولماذا بقي الإسلام بعد ذلك بقرون؟ الجواب ببساطة هو أن الذين ظنوا نهاية الإسلام هم أولئك الذين اعتقدوا أن الإسلام دولة في المقام الأول، دولة لا مجتمع، أو أنه لا يستقيم ولا تقوم له قائمة، ما لم تكن هناك دولة تمثله، وهنا يكمن الخطأ وتكمن الخطيئة في آن معاً. ظنوا أنه لا إسلام دون خلافة، أو لنقل ظنوا أنه لا إسلام بلا دولة، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

فالدولة، وفي الأديان العالمية، أي تلك التي ترى أن عموم الناس هم مجال دعوتها، هي شيء مضاف إلى الدين تاريخياً وذلك حين يؤدلج الدين فتتغير طبيعته، وليست من الدين ذاته أو أركانه في شيء. بمعنى أنها خيار تاريخي بشري، وليست من أصول المقدس. فالمسيحية حين وفاة المسيح لم تكن تتجاوز في أتباعها عدد أصابع اليد، بل وأن هؤلاء تنكروا للمسيح عليه السلام عند القبض عليه، وقبل أن يصيح الديك معلناً بداية يوم جديد، ولكنها أصبحت بعد ذلك الديانة الرسمية للدولة الرومانية، فهل ما كانت المسيحية لتستمر لولا تبني الدولة الرومانية لها؟ ليس بالضرورة. فهناك من الأديان ما استمر دون دولة، لأن الدين بإيجاز العبارة موجه في خطابه إلى الأفراد والمجتمعات لا إلى الدول والحكومات. بل أن تبني الدولة الرومانية للمسيحية حولها في النهاية عن مبادئها الأصيلة، وتحولت المسيحية من دين ملؤه التسامح والحب، إلى ديانة غازية ملؤها التعصب ومقت الآخر، أي إلى إيديولوجيا سياسية، مما أدى إلى الثورة على الكنيسة في النهاية حين أصبحت لا تختلف عما ثار عليه المسيح نفسه في بداية رسالته. فالسياسة في النهاية، تُفسد كل شيء بما فيه الدين نفسه.

ولو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتمكن من الهجرة إلى المدينة، أو أنه لم يتمكن من إقامة دولة هناك، فهل كان الإسلام سينتهي عند وفاة الرسول في مكة؟ لا يمكن أن يكون ذلك طالما أن الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات، وكلمة الله الخاتمة إلى البشر أجمعين: «إنا نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون». فكما حمى الله بيته أيام الفيل وأصحاب الفيل، فهو حام دينه بعد ذلك، بهجرة أو بغيرها، وإلا فإن في الأمر شك حين تُخضع الأمور لمسببات التاريخ وحدها. فقد يختلف التاريخ الإسلامي فيما لو لم تتم الهجرة، ولكن ذلك لا يعني نهاية الدين ذاته، من حيث هو رسالة وخطاب موجه إلى الأفراد والمجتمعات. وفي ذلك يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «كل تشريع في الإسلام خوطب به إما الفرد المسلم وإما الأمة، ولا يوجد خطابات للدولة على الإطلاق، الأمر الذي يعني..أنه لم تُلحظ الدولة باعتبارها مشروعاً مستقلاً بذاته.. وإنما هي مؤسسة تنجزها الأمة فتنجح فيها أو تفشل («المقدس وغير المقدس في الإسلام»، مجلة المنطلق، العدد 98، يناير 1993، ص 17). ولا ننسى أن المتحدث هنا هو شيخ شيعي، أي أنه من تلك الطائفة من المسلمين التي ترى أن المسألة السياسية تُعتبر من أصول الدين لا من الفروع، على عكس أهل السنة والجماعة من المسلمين الذين يرون أنها من الفروع.

منهجان يتنازعاننا هنا: منهج تاريخي صرف، ومنهج ديني صرف، وبينهما تكمن الحقيقة. المنهج التاريخي الصرف، فيما لو طُبق بحذافيره، يقول أنه لولا هجرة الرسول، لما كان للإسلام قائمة. والمنهج الديني الصرف يقول أن الإسلام قائم قائم، بهجرة أو بدونها. والحقيقة، إن كنا نبحث عن حقيقة أو كانت الحقيقة النقية هي غايتنا، تكمن بين الطرفين. فالله غالب على أمره ولو كره الكافرون، هذه حقيقة نابعة من تطبيق المنهج الديني الصرف. ولكن بدون الهجرة، ما كان لرسول الله أن يكون غالباً على أمره، وهو الذي خرج من الطائف تتقاذفه الحجارة، وهذه قد تكون نتيجة منطقية لتطبيق المنهج التاريخي الصرف، بما لا يتفق مع المنهج الديني الواعد بالنصر والتمكين في النهاية. أين تكمن الحقيقة بين كل هذه الحقائق؟ الجواب يكمن في طبيعة الحقيقة المُتحدث عنها. هناك حقيقة مادية لا يمكن إنكارها، وهناك حقيقة ما ورائية لا يمكن إنكارها أيضاً. المشكلة تكمن في الخلط بين المناهج، فتختلط الحقيقة المادية، أو التاريخية، بالحقيقة الماورائية، فتضيع الحقيقتان معاً في النهاية.

القائلون بضرورة وجود دولة من أجل استمرارية الدين، هم من يجني على الدين في النهاية وذلك لسبب بسيط هو أنهم من الخالطين، بل والضائعين بين المناهج، مما يجعلهم من المقرين ضمناً بحقائق قد لا تتماهى مع ما يظنون أنه المنهج السليم، وعلى افتراض حسن النية وصفاء الفؤاد أولاً وأخيراً. فمن ناحية هم يقولون أن الدولة من ضرورات الدين مثلاً، ولكن الإقرار بذلك يعني ضمناً أنه لولا الهجرة لما كان الإسلام، وهذا يتناقض مع الحقيقة الدينية، أو الماورائية كما أسميناها، من أن الله حافظ دينه وغالب على أمره ولو كره الكافرون. وبذلك، فإنهم، والحالة هذه، إنما ينكرون الحقيقة الدينية ضمناً، في سبيل حقيقة تاريخية وهم لا يشعرون، وهو أمر ينسف الدين من أساسه، إذا كيف يكون هنالك دين إذا كانت حقيقته الجوهرية غائبة؟ تسييس الدين، أي جعله ورقة من أوراق اللعبة السياسية، وتديين السياسة، أي جعل السياسة وممارستها بابا من أبواب الدين ذاته، يؤدي في النهاية إلى أقلمة (من إقليم) ما هو عالمي في جوهره، وإلى خصخصة ما هو عام في كينونته، وإلى ترخنة (من تاريخ) ما هو متسام في دعوته، وهذا ما تفعله الإسلاموية المعاصرة، كما فعله البعض بأديان أخرى سابقة ولاحقة، فكانوا بذلك من المدمرين للدين وهم يظنون أنهم من المدافعين عن بيضته. وفي ذلك يقول أحد الباحثين في هذا الشأن: «إن مشكلة النص الحزبي الإسلامي في تصوره للعالم والآخر غير المسلم، أنه يندفع بقوة نحو تنمية التصور الأحادي، ويبالغ في تركيزه إلى حد الإدانة الداعية إلى المفاصلة والمفاضلة. إنه يؤسس لنزعة إختلافية نابذة، تؤدي إلى انطوائية كارهة للآخر ونافية له. إن هذه النزعة لا تشمل غير المسلمين فقط، بل أن المفاضلة التي يدعون إليها تشمل بقية المسلمين في موقف لا يخلو من العسف والقطيعة، يطعن في إيمان عامة المسلمين ويجرح في سلامة اعتقادهم، بل ويصل إلى إشهار سيف التبديع والتكفير بوجه الأمة كلها» (عبد الغني عماد، حاكمية الله وسلطان الفقيه: قراءة في خطاب الحركات الإسلامية المعاصرة. بيروت: دار الطليعة، 1997، ص 152 ـ 153). خلاصة الموضوع في النهاية إن ربط ما هو خالد ومتسام (الدين)، بما هو مؤقت وتاريخي (الدولة)، قد يؤدي إلى الظن بأن فناء المؤقت هو فناء للخالد المرتبط به، وفي ذلك جناية على الدين، وهذا هو بالضبط ما يفعله في الخاتمة القائلون بتسييس الدين وأدلجة المقدس.