خطوة خطوة... نقلة نقلة (3)

TT

في المحاضرة التي القاها في ديوان الكوفة الخبير العراقي في شؤون النفط، الدكتور فاضل جلبي، دعا المحاضر الى خصخصة النفط بشكل او آخر، كله او جزء منه، او ارتهانه. بالطبع كل شيء في العراق اصبح يتوقف على عوائد النفط وتسديد ديون الدولة. بعيدا عن هذه الجوانب الاقتصادية والمالية، خطرت لي مسألة تتعلق بالجانب السياسي، او على الخصوص بالجانب الديمقراطي. تملك الدولة للثروة النفطية وتفرد الحكومة في التصرف بعوائدها هو ما حفز المغامرين الى شن الانقلابات العسكرية للاستحواذ بهذه الثروة الطائلة. وقد استطاع صدام حسين ان يستحصل على قرار من مجلس قيادة الثورة يجعل الواردات النفطية كليا تحت ارادته. تمركز هذه الثروة بيد الحكومة واعتماد الشعب على مكرماتها وعطاياها من اهم العوامل التي افضت الى الحكم الدكتاتوري. لماذا لا نفتش عن صيغة تنقل مركز الثقل هذا الى الجمهور بحيث يصبح هو السيد والحكومة تعتمد على عطاياه بشكل الضرائب التي يدفعها لها عما يكسبه من عوائد وارباح؟

تقوم الفكرة اساسا على خصخصة الصناعات النفطية بحيث تتسلمها شركات عالمية مساهمة يحمل المواطنون العراقيون اكثرية اسهمها ويكون لكل فرد بالغ سهم او عدد من الأسهم يتسلم ارباحها في نهاية السنة ويدفع ضريبة دخل عن هذه الأرباح للحكومة لتدبر شؤون البلاد المختلفة. ولا يجوز للمواطن بيع اسهمه هذه ولكنه يفقد ملكيتها في حالة فقدان جنسيته العراقية. وفي ظل نظام ديمقراطي برلماني، يعمل نواب الشعب على تحديد مدى الضريبة ونسبتها واوجه صرفها. في مثل هذه الصيغة يصبح المواطنون هم الملاك الحقيقيون لثروة البلاد، وبالتالي هم اصحاب السيادة وتصبح السلطة التنفيذية هي الخادم الذي يتوقف اجره على كرم المواطن عبر نوابه في المجلس. ولا شك ان من الضروري لنظام الشركة المخصخصة ان يتضمن ما يجرد الحكومة من قدرة التحكم بالأسهم او اعادة تأميم هذه الشركة العالمية. وبطرح نسبة من اسهم الشركة للبيع في الأسواق العالمية، سيستطيع العراق الحصول على اموال يسدد بها جزءاً من ديونه.

الفكرة ليست جديدة كليا فقد طبقتها الولايات المتحدة بالنسبة لنفط الاسكا حين وزعت اسهم الشركة القابضة على سكان الولاية. كما ان النرويج اتبعت صيغة من ذلك بالنسبة لنفط بحر الشمال. ابدى الدكتور الجلبي تحفظا على الفكرة. رأى ان الولايات المتحدة استطاعت تطبيقها في ولاية الاسكا لقلة عدد السكان عند اكتشاف النفط فيها. العراق يتكون من خمسة وعشرين مليون نسمة مما يجعل تطبيق المشروع اقرب الى اليوتوبيا منه الى الحل العملي. لا شك ان الموضوع يتطلب دراسة وافية فهناك كثير من المشاكل التي سترتبط بالموضوع. مثلا، هل سيستطيع المواطن العراقي الأمي او الجاهل ان يحسن التصرف بما يتسلمه من عوائد وينظم ميزانيته في ضوئها؟ هل سيستطيع فهم مقررات الشركة ومناقشة سياساتها في اجتماعاتها العامة؟

هذا في الواقع ما يغريني في مثل هذا الترتيب. سيواجه صعوبات جمة في مراحله الأولى ولكنه على المدى البعيد سيساهم في توعية المواطن وتثقيفه وتحويله الى اداة فعالة في تسيير ماكنة النظام الديمقراطي. لأول مرة بعد الوف السنين سيجد ابن دجلة والفرات من الفلاحين والمدقعين انه يملك شيئا في هذا العالم وانه يستطيع ان يتصرف بحياته. ومن ناحية اخرى سيقلل من محفزات العمليات الانقلابية والارهابية ويساعد على توفير الاستقرار للبلاد ككل. فضلا عن ذلك، سيكون اداة حاسمة في اعطاء المرأة استقلالها وقدرتها على التحكم بمصيرها وشعورها بالمساواة في امتلاكها حصة من ثروة وطنها مساوية لحصة الرجل. وهذا في رأيي عنصر جدير في الأخذ بنظر الاعتبار مقابل العقبات والسلبيات التي ينطوي عليها الحل.

يعترض معظم العراقيين والعرب الآخرين ايضا على هذه الوصفة. يعتبرون أي فكرة لخصخصة الثروة الأولى للبلاد واستبعاد يد الدولة منها مثلبة واساءة للكرامة الوطنية وسيادة البلاد. هذا اعتراض متوقع ممن اعتادوا على ان يعتبروا الدولة هي الأول والآخر، ولا يريدون بسطاء الناس يملكون زمام حياتهم بأيديهم. كلا ، ولا ان يروا نساءهم يملكون ما يعطيهم كيانهم المستقل.

بيد ان النفط في الحقيقة ورغم كل هذا التركيز عليه، ليس بالثروة الأساسية للعراق. هناك عناصر اهم دواما ومنفعة كما سأتطرق اليه غدا.