إيران إلى أين؟

TT

زار الفيلسوف الألماني المعروف، يورغن هابرماس، إيران في السنة الماضية، مدعوًا من مركز حوار الحضارات الذي أنشأه الرئيس محمد خاتمي، وعاد مذهولا من رحلته التي كتب انطباعاته حولها في صحيفة "فرانكفورتر الجماينة زايتونج"، وأساس الاندهاش هو ما لمسه من جمع غريب بين انفتاح فكري واسع لم يكن يتوقعه وانغلاق سياسي تقنعه مؤسسات انتخابية ناجحة.

فالساحة الثقافية الإيرانية تعج بكلّ التيارات الفلسفية والفكرية، وأسماء كبار الفلاسفة الغربيين تتداول على نطاق واسع حتى في الأوساط الأكثر محافظة وجمودًا في الشأن السياسي.

ولكن، هل تشكل ثورة الطلاب التي تدور حاليًا في أروقة الجامعات الإيرانية نهاية هذه المعادلة الهشة، بعد بروز دلائل واضحة على أن التمرد يطال هذه المرّة مرتكزات وشرعية النموذج الثوري الإيراني الذي قام عام 1979 بوجهيه الإصلاحي والمحافظ؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التذكير بأن ديناميكية الثورة الإيرانية قد حملتها أطراف ثلاثة أساسية ضمنت نجاحها، هي المؤسسة الدينية المتمحورة حول كبار المراجع وعلى رأسهم الإمام الخميني، والوسط الثقافي الحي المتمركز في الجامعات، والمجتمع المدني المتمحور حول البورجوازية الوطنية النشطة (البازار).

ولم تكن الثورة لتنجح من دون حسم عوائق عديدة، مكنت هذه التوليفة من تجاوزها. أحدها هو مشروعية الدولة في عهد غيبة الإمام، فكانت أطروحة "ولاية الفقيه" التي بلورها الإمام الخميني مخرجًا من هذا المأزق النظري، والآيديولوجي.

ومن هذه العوائق أيضًا القدرة على ربط الوسط الثقافي الحديث بالمؤسسة الدينية، في بلد كان في طليعة البلدان الإسلامية، من حيث مسار العصرنة والتحديث، ومن أكثرها انفتاحًا على الغرب، وقد أدى هذه الدور بعض المفكرين الإصلاحيين من الضفتين، من أبرزهم آية الله المطهري وآية الله الطلقاني من الملالي، ومهدي بازركان وعلي شريعتي من الوجوه الفكرية الجديدة.

ومن هذه العوائق كذلك، القدرة على استمالة بورجوازية نشطة وحية تشكلت في مناخ اقتصاد النفط والتوسع التنموي الذي واكبه، كما أن ارتباطاتها وثيقة بمراكز الاقتصاد العالمي في الغرب، بيد أن خيوطها ظلت قائمة بالمؤسسة الدينية المتجذرة في الحراك الاجتماعي، والتي تمكنت في نهاية المطاف من احتوائها.

ولقد ترجمت التجربة الأولى للثورة هذه المعادلة الدقيقة، فقامت على توازن هش بين مكون ليبرالي مثله رئيس الحكومة المؤقت بازركان، والرئيس الأول المنتخب بني صدر، ومكون أصولي متشدد خارج من رحم المؤسسة الدينية مثله "الحزب الجمهوري الإسلامي" والتنظيمات الثورية المرتبطة به (المحاكم والحرس)، في حين تمكن البازار من ربط خيوطه ببعض الملالي المتنفذين البرغماتيين من أمثال الرئيس السابق رفسنجاني، وحافظ على مواقعه في البرلمان المنتخب.

ومن المعروف أن سنوات الثورة الأولى كانت دامية عنيفة، شهدت تصفيات متتالية طالت في البداية الطرف الليبرالي والتنظيمات اليسارية (توده ومجاهدي خلق)، فضلا عن رجال نظام الشاه الذي تعرضوا لمجازر المحاكم الثورية، في حين تعرض العديد من رموز وقادة الثورة للاغتيال، ومنهم الوجه الأبرز للاتجاه الراديكالي آية الله بهشتي، كما تم إسكات وتهميش جناح المؤسسة الدينية المتحفظ على نهج "ولاية الفقيه"، ومن أبرز عناصره آية الله المنتظري الذي رشحه الخميني خليفة له.

ولئن كان عقد التسعينات بدا هادئًا في إيران بعد خروجها من حربها الضروس مع العراق، واستفادتها الواضحة من عزل واحتواء نظام صدام بعد حرب تحرير الكويت، إلاّ ان مؤشرات عديدة برزت بوضوح على انبثاق ديناميكية إصلاح نشطة من داخل المشروعية الإسلامية ذاتها، عبرت عن نفسها بالاجماع الشعبي شبه التام الذي حصل عليه الرئيس خاتمي في الدورتين الانتخابيتين الرئاسيتين الأخيرتين.

ومع أن الرئيس خاتمي لا يمثل اتجاهًا فكريًا وسياسيًا بذاته، فقد التفت حوله كل القوى المحبطة والناقمة، إلا أن فوزه الكاسح في الانتخابات يفسر بعاملين أساسيين هما من جهة، اعتماده خطًا فكريًا إصلاحيًا في تواصل مع الأطروحات النظرية والآيديولوجية الجديدة التي انتشرت على نطاق واسع في العديد من المنابر الفكرية والإعلامية، والدعم الكثيف والقوي الذي لقيه من مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأسها التنظيمات الشبابية والطلابية والنسوية.

وعلى الرغم من سيطرة التيار الإصلاحي على كلّ المؤسسات المنتخبة، بما فيها البرلمان، إلا أن الديمقراطية الإيرانية بدت عاجزة لأسباب بنيوية ذات صلة بالثغرات والعوائق الدستورية، عن ترجمة ديناميكية الإصلاح والتغيير في الواقع العملي، مما يفسر حالة الاختناق الراهنة، وانبثاق خطر تركز المطالب الإصلاحية خارج مرجعية النموذج الخميني. والواقع أن نموذج "ولاية الفقيه" بدأ يتعرض للنقد الجذري، في ساحة فكرية وسياسية غارقة في الجدل النظري والفكري حول مواضيع مثيرة، مثل قراءة النص الديني وفلسفة الفقه وعلم الكلام الجديد.

ومن أبرز رموز هذه الحركة الفكرية الحيوية، الفيلسوف عبد الكريم سروش، صاحب نظريتي "القبض والبسط" و"الصراطات المستقيمة"، وعالم الحوزة المجدد مصطفى ملكيان وغيرهما من وجوه الفكر، الذين أصبح تأثيرهم واسعًا في الأوساط الجامعية والحوزوية، وينم إنتاجهم عن ثورة حقيقية عميقة في الفكر الإيراني، من الطبيعي أن تكون لها آثار مثمرة في الشأن السياسي والاجتماعي. وقد أصبح بإمكان القارئ العربي الاطلاع على بعض جوانب هذا الفكر الجديد من خلال مقالات وإصدارات مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" التي يشرف عليها المفكر العراقي المرموق، الصديق عبد الجبار الرفاعي.

ولا شك أن السؤال المطروح الآن بقوة، هو إلى أي اتجاه ستتطور انتفاضة الطلاب الراهنة؟ هل ستتحول إلى حركة تغيير جارفة تقوض النظام الثوري، الذي يبدو أن الجانب الأوفر من زخمه قد تلاشى على مر السنين العجاف، أم أن ديناميكية الإصلاح الداخلية ما زالت قادرة على إنقاذ النموذج من حيث مرجعيته وأطره المؤسسية؟

قد لا يكون من اليسير إلى حد هذه اللحظة المغامرة، بالإجابة عن هذا السؤال العصي، بيد أن الأمر الذي لا ريب فيه، هو أن آليات الديمقرطية الإيرانية في شكلها الحالي لم تعد مؤهلة لامتصاص صدمة التحول المطروح، خصوصًا بعد أن بات من الجلي، أن سقف المطالب التغييرية وصل إلى حد التنصل من أطروحة ولاية الفقيه والنموذج السياسي القائم عليها.