الحرب النفسية على الوطن العربي

TT

جزى الله أخانا «نيكولاس كريستوف» كل خير، فقد كان ما كتبه في «الشرق الأوسط» خدمة فكرية وإنسانية أفادتنا بالقول الفصل في قضية المجندة الأمريكية «جيزيكا لنش»، التي كاد الإعلام الأمريكي يجعل منها جميلة بو حيرد أو جان دارك، والتي قد تكون في الشهور القادمة محور عدة أفلام ومسلسلات تندد بالعرب القتلة الذين فجروا أبراج نيويورك (التي ما زال التحقيق النهائي فيها لم يثبت الفاعل الأصلي) والذين قتلوا الرياضيين الإسرائيليين الأبرياء في ميونيخ (وللعلم فإن أولئك ماتوا برصاص القناصة الإسرائيليين والمهاجمين الألمان).

ويؤكد الكاتب أن المعلومات الأولى لعملية إنقاذ «جيسيكا» قد زينت وصيغت تماما مثل الخطر الوشيك المزعوم لأسلحة الدمار الشامل العراقية (..) إذ ثمة سمة مشتركة تتمثل في تضليلنا (..)، ثم يحرص، بموضوعية جديرة بالتقدير، على عدم التقليل من شأن المجندة التي وصفها أطباؤها العراقيون بالشجاعة والحس الفكاهي والتي كانت إصابتها نتيجة لحادث مرور، ويؤكد الرعاية التي تلقتها من العراقيين، وينفي تماما أن القوات الأمريكية قامت بعملية بطولية لإنقاذها، لأن العراقيين أنفسهم هم الذين سلموها، بعد أن أعطوها كل ما في إمكانهم من رعاية.

وليس من حق أحد أن يلوم القوات الأمريكية عل الهالة السينمائية التي أعطتها لهذه القضية، والتي دفعت ثريا عربيا إلى إهدائها سيارة من طراز «جاغوار»، في حين أن «سارة كول»، التي سحقتها الجرافة الإسرائيلية وهي تدافع عن منزل فلسطيني تقرر هدمه، لم تحظ حتى برسالة تعزية من العرب الأمجاد، أمة حِنا للسيف حِنا للخيل، بتعبير العزيز حسنين كروم.

فالدعاية الحربية هي جزء من الحرب نفسها، والأكاذيب جزء من تلك الدعاية، التي نتعرض لها منذ عقود طويلة حاولت هوليوود فيها أن تقنعنا بأن «طرازان» هو منقذ القبائل الأفريقية من الهمجية، وبأن الخونة والعملاء الذين يتعاونون معه ويدلونه على أعدائه هم في واقع الأمر أناس متحضرون.

ولن أستذكر عشرات الأفلام التي قدمت لنا كل خصوم الأمريكان في صورة الوحوش الضارية، سواء أكانوا ألمانا أو يابانيين أو عربا عاربة أو مستعربة.

وأنا أقول وأكرر بأن هذا جزء من الحرب التي تشن ضدنا، ليس من حقنا أن نشكو منه أو نحتج عليه ولكن علينا ألا نخدع به، وإذا خدعنا مرة، جهلا، فمن الحماقة أن نقبل الخديعة أكثر من مرة.

والأكاذيب متواصلة، وخصوصا مع تزايد عمليات المقاومة العراقية، التي يريد البعض أن يحرم الشعب العراقي من شرف القيام بها.

ومن هنا فلا أتصور أن هناك عاقلا يمكن أن يصدق ما أكده مسؤولون عسكريون أمريكيون من أن «أنصار الرئيس السابق صدام حسين جندوا مقاتلين أجانب لمقاومة القوات الأمريكية في العراق».

وتتحدث المصادر الأمريكية، التي لا تحمل أسماء تحدد هويتها أو وظائفها، عن جوازات سفر ووثائق عُثر عليها، بدون أن تنشر صورة واحدة لهذه الوثائق، ثم تتحدث عن أسرى عرب تم اعتقالهم، بدون أن نرى صورا لهؤلاء الأسرى بحضور ممثلين لهيئة الصليب الأحمر، لتحديد وقت اللقاء وتاريخه ومضمونه.

وما زلت أقول أن هذا جزء من العملية الحربية، لكن الشيء الذي يثير الاشمئزاز هو مسارعة البعض عندنا إلى تبني كل ما تدعيه المصادر الأمريكية، وانتهاز الفرصة للإساءة إلى كل ما هو قومي أو إسلامي.

وعندما بثت التلفزة صور المقابر الجماعية قلت بأن هذا الأمر فظيع ويجب التنديد به، ولكنني، في الوقت نفسه، طالبت الهيئات المعنية بإرسال مجموعات من رجال الطب الشرعي لفحص الرفات وإثبات أسباب الوفاة وظروفها.

ولم يتحرك أحد باستثناء مؤسسة كويتية تبحث عن المفقودين إثر غزو الكويت، رأت، مشكورة، أن تقوم بالواجب المنوط بها.

واللامبالاة التي قوبلت بها اقتراحات الفحص الطبي الدقيق للرفات تجعلني أتفهم ما كتبه الدكتور لطفي ناصف في صحيفة «الجمهورية» المصرية، حيث يقول بأن «المقابر الجماعية هي أسلوب خبيث اتبعته الإدارة الأمريكية (..) فقد عشت في العراق (يقول،) وشاركت في جنازات بعض المعارف من العراقيين، فطبيعة المقابر ونظام الدفن هو وجود مساحات كبيرة كمقابر عامة يتم الدفن فيها بلا شواهد، حيث تحفر فيها حفر متساوية في صفوف متوازية، ويتم الدفن فيها ثم ردمها حتى ينتهي الصف فيبدأون بالصف الذي يليه، فهي فعلا مقابر جماعية ولكنها ليست مقابر سرية لدفن ضحايا النظام (..) وفي حالة تعرض بعض المعتقلين للموت في السجون العراقية كانت السلطات تستدعي أقارب الضحية وتأمرهم بإجراء مراسم الدفن في هدوء».

وأنا أعرف أن النظام العراقي قد قام بتصفية مئات الخصوم، ولا أعرف أين دفنوا ولا كيف، ولا يمكنني أن أصادق على ما قاله الدكتور ناصف بقبول مطلق، لكنني أسجل أمرين يعملان لصالح نظرته، أولهما تسجيله أنه شهد بنفسه حالات من هذا النوع، والثاني هو أن المقابر المكتشفة كانت منظمة فعلا في صفوف، في حين أن المقابر الجماعية الإجرامية، كتلك التي دَفن فيها الفرنسيون ضحايا الثورة الجزائرية، كانت حفرا كبيرة تكوم فيها الجثث وتلقى عليها مواد كاوية للإسراع بتحللها، وكثيرا من الرفات التي عثر عليها كانت تحمل بقايا القيود الحديدية، وتشير نوعية الإصابات المسجلة في الجماجم أن الطلقات النارية وجهت من الخلف (وهذه هي أهمية فحوص الطب الشرعي) وهناك صور مشابهة لهذه تتمثل في المقابر الجماعية التي دفن فيها مجرمو الصرب ضحاياهم من المسلمين، وهذه وتلك صور مختلفة عمّا شاهدناه في العراق.

وهكذا نجد أن من بيننا من أصبح بوقا للإعلام الأمريكي يردد أكاذيبه، وسواء كان هذا مجانا أم مدفوع الأجر فإنه أمر مؤسف، خصوصا إذا صدر عن مثقفين، فهم يفخرون باستلابهم ويستكملونه بالتشكيك في كل ما يقوله مصدر وطني عربي، لمجرد أنهم يختلفون معه آيديولوجيا أو سياسيا.

وأختار هنا الحادثة التي انقض عليها البعض كما ينقض كليل البصر أعمى البصيرة على بصقة يحسبها دينارا فضيا، وهي حكاية منقاش والأباشي الأمريكية، والذي تسابقت إليه الكاميرات بعد سقوط تمثال الفردوس لتنقل تكذيبه لما سبق أن نُسِبَ إليه، من إسقاطٍ للطائرة ببندقية عتيقة.

ولم يتوقف عاقل ليقول بأنّ كذِب الرجل في المرة الأولى خوفا من زبانية صدام يعني بالضرورة أنه كذِبَ في المرة الثانية خوفا من زبانية بوش، وبالتالي فإن القضية كلها تفتقد الصدقية والمصداقية، وهي جزء من الحرب النفسية التي مارسها النظام العراقي عندما كان مسيطرا على الوضع ويمارسها من أسقطوه عندما تحكموا في الوضع، وهو أمر طبيعي لا يستحق التصرف بالطريقة التي يقول عنها المثل الجزائري «عجوز عانس أمسكت بسارق شاب».

لكن هناك منطقا آخر يجب ألاّ نهمله، وهو إمكانية الإسقاط، فالبنادق القديمة من الطرازين الألماني (موزر) والبريطاني (لي أنفيلد - 303) تطلق رصاصات نحاسية أسقطت طائرات أمريكية في حرب الفيتنام وأخرى فرنسية في حرب الجزائر، لأن أي جسم صلب يصيب جناح الطائرة المملوء بالوقود يمكن أن يسقطها.

والطائرات العمودية أكثر تأثرا بالأسلحة القديمة، لأن إسقاط صاروخ عصري مهاجِمٍ أسهلُ، تقنيا، من ردّ الرصاصة النحاسية الطائشة.

وأنا لا أجزم بشيء لكنني لا أستطيع أن ألغي احتمال سقوط الأباتشي نتيجة لإصابة مباشرة في موقع حساس، وربما برمية من غير رامٍ، ودليلي البسيط على ذلك أننا لم نسمع ولم نقرأ تحليلا علميا لسقوط تلك الطائرة بالذات، وهي التي لم تتحطم كلية، وكان من الممكن دراسة كل أجزائها، ولم نسمع تصريحا لطياريها أو ملاحيها، اللهم إلا إذا كان سبب السقوط هو عيب آلي في أجهزة الطائرة أو خلل في صناعتها، تحرجت الإدارة الأمريكية من الاعتراف به.

هل أقول لبعض الرفقاء.. اتقوا الله فينا وفي أمتكم وفي أنفسكم.. أم على قلوب أقفالها؟

[email protected]