هل حقا ماتت القومية العربية؟.. تساؤلات ومراجعات

TT

قرأت مؤخرا في بعض المصادر العربية والاجنبية، ان القومية العربية كآيديولوجيا اصبحت في ذمة التاريخ بعد انحسار البعث والناصرية.

ومن المعلوم ان موت جمال عبد الناصر المبكر والمفاجئ عام 1970 اثر كثيرا على انتشار القومية العربية لأنها كانت متجسدة في شخصه، ولهجة صوته، وحرارته. نقول ذلك على الرغم من ان الضربة الموجعة التي اصابت مصداقية القومية العربية في الصميم كانت قد حصلت عام 1967 وبالتالي فقد تأجل الموت الرسمي مدة ثلاث سنوات فقط.

ولم يستطع اي زعيم عربي بعد موت عبد الناصر ان يستقطب الناس حوله من المحيط الى الخليج كما يقال، بل العكس هو الصحيح فقد قدم بعضهم النموذج المضاد لما ينبغي ان يكون عليه الفكر القومي ذو الوجه الانساني المشرق. وبالتالي فالسقوط الذي حصل مؤخرا كان من حظ القومية العربية بهذا المعنى. فالوجه الاستبدادي المطلق للقومية العربية هو الذي سقط، وبالتالي فعلى اي شيء يحزنون؟

في الواقع ان الفكر القومي بحاجة الى مراجعة جذرية وشاملة اذا ما اريد له ان يبقى كتيار من جملة تيارات اخرى داخل الساحة الثقافية والسياسية العربية. بعض الدراسات التي صدرت مؤخرا تقول بأنه كان متأثرا بالفلسفة المثالية الالمانية وبخاصة فلسفة فيخته. انظر كتابه: «خطاب موجه الى الامة الالمانية». ويرى آخرون ان المشروع القومي العربي كان متأثرا بالثورة الفرنسية والدولة اليعقوبية المركزية التي تولدت عنها، وهي دولة ترفض الاقليات العرقية او اللغوية وتريد تهميشها ان لم يكن القضاء عليها. ويذهب آخرون الى حد القول بأنه كان متأثرا بالتيارات الفاشية على طريقة موسوليني او النازية على طريقة هتلر.

مهما يكن من امر فهناك عدة حساسيات داخل التيار القومي أيا يكن. والحساسية المتعصبة او الشوفينية ليست الا احداها. ولكن الشعور القومي بالمعنى المنفتح والواسع شيء مشروع ولا غبار عليه. فمن الواضح ان الفرنسي يشعر بالفرح اذا ما رأى في الخارج جرائد بلاده ولغتها وحروفها، واذا ما سمع بعضهم ينطق بها. وقل الامر ذاته عن الالماني، او الانكليزي، او الايطالي، الخ. وبالتالي فالشعور القومي بالمعنى اللغوي والثقافي للكلمة لم يمت ولن يموت حتى ولو تحققت العولمة الكونية.

وانا شخصيا شعرت بالفرح عندما زرت المغرب الاقصى لأول مرة وخرجت من محطة القطار المركزية في الرباط. فقد وجدت امامي كل جرائد المغاربة ومجلاتهم مصفوفة بطريقة انيقة. واشتريت قسما كبيرا منها ورحت اقرأه بكل متعة وانا اعرف اني على بعد ستة آلاف كيلومتر من سوريا! عندئذ شعرت باني توسعت، اصبحت اكبر من نفسي، شعرت باستطالاتي وامتداداتي. وشعرت بالفخر والاعتزاز ايضا. وقلت بيني وبين نفسي: حيث تنتهي حدود اللغة العربية تنتهي حدودي.

نعم ان اللغة التي هي وعاء الثقافة والحضارة تشكل الركيزة الاساسية للنزعة القومية. ولكن هل يعني ذلك انه ينبغي ان اتعصب ضد البربر (الامازيغ) في المغرب، او ضد الاكراد في المشرق لكي اصبح قوميا عربيا؟ اذا كان الامر كذلك فأنا (الذي لا يستطيع ان ينام او يستيقظ بدون ان يترنم ببعض ابيات من الشعر العربي) لست قوميا عربيا.

هنا يكمن وجه الخطر والخطورة في الآيديولوجيا القومية العربية. لقد تحجرت وتكلست وتحولت بمرور الزمن الى آيديولوجيا استبدادية مغلقة ومفرغة من اي حس انساني او فلسفة عميقة. وبالتالي فقد آن الاوان للاعتراف بهذا الانحراف وتحليل اسبابه. متى طرأ يا ترى؟ وهل كان موجودا منذ البداية؟ ام انه حصل مؤخرا وتضخم في مرحلة تاريخية معينة؟ وكيف يمكن اصلاح الخلل وتشكيل فكر قومي ذي وجه انساني؟ قد يقول قائل: ولكن هذه تساؤلات تجاوزها الزمن. فنحن نعيش الآن في عصر الاصولية الاسلامية لا عصر القومية العربية. وهذا صحيح الى حد ما. فبعد موت عبد الناصر استطاع الاخوان المسلمون ان يسترجعوا الارضية المفقودة في عصره واحتلال الساحة الآيديولوجية من جديد. ولكن هنا ايضا نجد انفسنا في مواجهة نفس السؤال: هل ينبغي ان اتعصب للاسلام ضد كل الاديان الاخرى لكي اكون مسلما؟ ام انه يوجد طريق آخر لفهم الاسلام ورسالته؟ هكذا نلاحظ ان المراجعة الراديكالية تفرض نفسها على كافة الاصعدة والمستويات بعد كل ما حصل مؤخرا.

وانا اعتقد ان 11 سبتمبر بالنسبة للاصولية الاسلامية لا يقل خطورة عن 5 حزيران 1967 بالنسبة للناصرية والقومية العربية. وبالتالي فالسؤال المطروح هو التالي: كيف يمكن تحديث الركيزتين الاساسيتين لفكرنا وهويتنا: اقصد الركيزة القومية، والركيزة الدينية؟ بدون القيام بهذا العمل لن تنهض للقومية العربية قائمة بعد اليوم، وبالطبع فإن مصير التيار الديني سوف يكون الفشل الذريع. هكذا نجد انفسنا، وربما لأول مرة، امام تحد خطير لم يسبق له مثيل. نجد انفسنا وكأننا نقف في الفراغ او في الهواء بدون ركائز او مقومات. نجد انفسنا وكأننا خسرنا الدنيا والآخرة.

فما العمل يا ترى؟ بالتأكيد ليس الانضمام الى «المؤتمر القومي العربي» الذي تسيطر عليه «الديناصورات» الصِدامية او الصدامية ذات العمى الآيديولوجي واللغة الامتثالية المتخشبة. وليس الانضمام الى الحركات الاصولية التي هيجت العالم كله ضدنا وأوصلتنا الى ما وصلنا اليه اليوم. وليس الخلط بين التيارين على طريقة اللقاءات القومية ـ الدينية التي لم يكفها ان اعمتنا مرة واحدة فأرادت ان تعمينا مرتين! لكأنه لم يكفنا التعصب القومي فأضفنا له التعصب الديني.. سوف افاجئ القارئ اذا ما قلت له بأن الحل يكمن في الانضمام الى شيء غير موجود حتى الآن.. فالبديل لن يتشكل الا على انقاض القديم المنخور. لقد دخلنا ايها السادة في معمعة لها أول، وليس لها آخر، على الاقل في المدى المنظور. فكم من الوقت سوف يستغرق تفكيك الفكر القومي العربي بصيغته المتحجرة؟ وكم من الوقت سوف يستغرق تفكيك الفكر الاصولي الظلامي؟ لقد «راح» جيلنا في هذه العملية، وكذلك الجيل الذي سيليه. وانا شخصيا لم تعد لي اوهام حول المرحلة الحالية. بالطبع فاني اشعر بالارتياح النفسي نتيجة الانهيارات التي حصلت مؤخرا. وكنت احلم بها منذ اكثر من ربع قرن. كنت احضر لها عن طريق فكر نقدي جذري يذهب الى اعماق الامور وشروشها ولا يتوقف في منتصف الطريق. ولا اشعر بأني مشيت ضد حركة التاريخ طيلة ربع القرن الماضي. على العكس لقد واكبتها واستبقتُ عليها. ولا اقول ذلك على سبيل الافتخار بالنفس، فهذا شيء زهيد ولا معنى له. وانما اقوله لكي افهم بعض الآخرين بأن المعركة الفكرية لا تزال في بداياتها، وان كاتب هذه السطور مستعد للانخراط فيها، او مواصلتها حتى النفس الاخير.

[email protected]