المجتمعات الإنسانية لا تخلو من الأخطاء والخطايا

TT

ليس هناك مجتمع في ـ الشرق أو الغرب ـ يخلو من الأخطاء والخطايا والأمراض الاجتماعية، مع التفاوت في أنواع ونسب تلك الخطايا والأمراض، لكن أخطر ما تتفاوت وتتمايز فيه المجتمعات هو طبيعة نظرتها إلى هذه الخطايا والأمراض، فإذا نظرت مجتمعات ما إلى الانحلال الخلقي مثلا، وإلى حرية المعاشرات الجنسية، وإلى التفكك الأسري، باعتبارها من حقوق الإنسان والجسد والغرائز، كانت الكارثة أعظم، والعلاج أبعد عن متناول الحكماء والمصلحين، لأن ممارسة هذه الخطايا والأمراض الاجتماعية تنتقل من خانة الخطايا إلى حيث تصبح جزءا من فضيلة الحرية، ومفهوم التقدم، والمقاصد الحضارية لتلك المجتمعات.. وهنا تتحقق ذروة المأساة عندما يموت الضمير!

وإذا كانت المجتمعات الإسلامية ـ في عمومها ـ لم تصب حتى الآن بموت الضمير، وإذا كان العُصاة فيها والخطاؤون يعرفون أنهم يقترفون الحرام، ويطلبون من الله الستر.. والتوبة ـ خصوصاً أكان هؤلاء عصاة أم زناة ـ فإن دعاة الإصلاح، في المجتمعات الإسلامية، يجب أن يتنبّهوا إلى المخاطر الوافدة على مجتمعاتنا، بسبب تعاظم وسائل الغزو الفكري، وعولمة منظومة القيم الغربية، وإلى بواكير تغير النظرة إلى بعض الخطايا، واعتبارها «حلالاً» وحقاً من حقوق الإنسان.

ومثال ذلك «الزواج السري»، الذي أخطأت وسائل الإعلام عندما وصفته بـ «الزواج العرفي»، حتى أصبح قطاع من الذين يمارسونه ـ نتيجة للفقر الذي يعجزهم عن الزواج الشرعي.. أو للترف الذي يشيع الحيوانية عند قطاع من المترفين ـ حتى أصبح الذين يمارسونه يحسبونه شرعياً.. ولقد كان الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (1310 ـ 1383هـ / 1893 ـ 1963م)، عميق النظرة وثاقب الفكرة عندما حسم الموقف الشرعي المحرِّم لهذا الزنا، فقال: «إن الزواج السري هو نوع قديم من الزواج، شرحه الفقهاء، وبينوا معناه، وحكمه، وقد أجمعوا على أن منه: العقد الذي يتولاه الطرفان دون أن يحضره شهود، ودون أن يعلن، ودون أن يكتب في وثيقة رسمية، ويعيش الزوجان في ظله مكتوما، لا يعرفه أحد من الناس سواهما. وأجمع الفقهاء على أنه باطل، لفقده شرط الصحة، وهو الشهادة، فإذا حضر شهود، وأُطلقت حريتهما في الإخبار به، لم يكن سراً، وكان صحيحاً شرعاً، أما إذا أُخذ عليهم العهد بالكتمان، فقد اختلف الفقهاء في صحته، بعد أن أجمعوا على كراهته، فرأت طائفة أن وجود الشهود يخرجه عن السرية.. ورأى الإمام مالك أن التوصية بالكتمان تسلب الشهادة روحها والقصد منها، وهو الإعلان الذي يضمن ثبوت الحقوق، ويزيل الريبة، ويفصل بين الحلال والحرام ـ كما جاء في الحديث الصحيح: «فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت» ـ فمجرد العدد لا يزيل السرية، وكم من سر بين أربعة وبين عشرة، لا تزول سريته ما دام القوم قد تواصوا بها، وبني العقد عليها، ولعل المجالس الخاصة التي يعرفها اليوم أرباب الفجور المشترك من أوضح ما يدل على أن كثيراً ما يكون بين أكثر من اثنين.

وإذا كان الزواج السري بنوعيه، الذي لم يحضره شهود، أو حضروه مع التوصية بالكتمان، دائرا بين البطلان والكراهية، وأنه يحمل السرية التي هي عنوان المحرم، كان جديراً بالمسلم ـ الذي شأنه أن يترك ما يريب إلى ما لا يريب ـ أن يمتنع عنه، ولا يقدم عليه، ولا يزج بنفسه في مداخله الضيقة التي لا تحمد عاقبتها...

بهذا أتى الشيخ محمود شلتوت، يوم لم يكن الزواج السري «ظاهرة» منتشرة.. أما اليوم، وبعد شيوع هذا الخطر، فإن معالجة أسبابه ضرورة.. إذ لا تكفي الفتاوى في علاج مثل هذه الخطايا والأمراض.