سباق الفرصة الأخيرة في الأزمة الفلسطينية

TT

سمعنا رئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس في اريحا الاسبوع الماضي يعقد مؤتمرا صحافيا مع وزير الخارجية الامريكي كولن باول.. سمعناه في غزة بعد ان اجرى محادثات وطنية مع الفصائل المعارضة وسمعناه ورأيناه في رام الله والعقبة، ووقفنا في كلماته وخطاباته المكتوبة بعناية.. وتلك الشفهية التي تخرج بعفوية وصدق، ومن خلال ما سمعناه ورأيناه، لاحظنا ان محمود عباس متفائل بشكل لافت للنظر.

وطبقا لما نعرفه من محمود عباس وما يعرفه عنه الغربيون منه ومن عقله وطريقته في التصرف، يمكننا ان نلخص مواقفه من القضية والحل على النحو الآتي:

أولا: ان محمود عباس يتعامل مع الادارة الامريكية منطلقا من قناعة كاملة بأنها هذه المرة جادة وجدية. وانها تريد فعلا ان تدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة وقادرة على الحياة. ولهذا السبب يتعامل أبو مازن مع الادارة الامريكية بثقة وانفتاح ومن دون افكار سلبية مسبقة.

ثانيا: يعرف أبو مازن مثل كل الفلسطينيين.. بل اكثر من كثير منهم.. ان الولايات المتحدة الامريكية ليست بنت خالتنا، بل بنت خالة اسرائيل. ويعرف أبو مازن ان الولايات المتحدة لا تنظر الى المشكلة الفلسطينية بعين فلسطينية، ولكنها لم تعد تنظر الى فلسطين بعين اسرائيلية كما كانت في السابق، بل بربع عين اسرائيلية والثلاثة ارباع عين امريكية.. وهذا في حد ذاته تقدم امريكي لم نكن نحلم به منذ ستين عاما. وقد التقطه أبو مازن بحدسه وشطارته وعقلانيته فتمسك به قبل وأكثر من الآخرين.

ثالثا: يعرف أبو مازن ايضا ان الرئيس عرفات رئيس منتخب مباشرة من شعبه بأفضل وسائل الانتخابات الحرة الديمقراطية. وهو قال اكثر من مرة انه رئيس لحكومة فلسطين باختيار من الرئيس عرفات وبشرعية مستمدة من شرعية الرئيس عرفات. ويوضح أبو مازن بكلمات مباشرة قائلا: انني في هذا الموقع لأن الرئيس عرفات اختارني. وامامه حلفت اليمين الدستورية. وبسبب شرعيته وموافقته ربحت موافقة المجلس التشريعي الفلسطيني.

وبناء على هذه الحقيقة، يرى أبو مازن ان كل عمل أو محاولة تستهدف النيل من شرعية أبو عمار هو محاولة فاشلة اولا وغير ديمقراطية ثانيا.. ولن يؤيدها ابدا.

رابعا: يعرف أبو مازن ايضا ان المعارضة الفلسطينية هي حق مكتسب وشرعي وديمقراطي، شأنها في ذلك شأن جميع المعارضات الديمقراطية في العالم كله. والمعارضة الفلسطينية هي النصف المتبقي من الفلسطينيين الذين يشكلون الشعب الفلسطيني. فهناك واحد وخمسون أو سبعون بالمئة منه مع السلطة الفلسطينية، وهناك تسعة واربعون أو ثلاثون بالمئة منه مع المعارضة. وهذا معناه ان الكلمة الفلسطينية الثانية هي حق مكتسب للمعارضة لا يمكن لاحد ان يحجبه عنها.

لكن أبو مازن يعرف ايضا ان المعارضة هي المعارضة بالكلمة وبالحجة والمنطق والاقناع. فإذا خرجت عن هذه الوسائل ولجأت الى السيف فمعنى ذلك انها تريد الاستيلاء على السلطة بالقوة.. أي: بالانقلاب ـ أي: بغير الوسائل الديمقراطية. ولذلك يرى ابو مازن ان «العسكرة» ينبغي ان تكون بيد السلطة وليس بيد المعارضة.. فإذا فشلت السلطة في انتزاع حقها بالدولة المستقلة، تصبح هي والمعارضة معا في خندق السيف. ولكن ليس قبل هذا الفشل اذا حصل لا سمح الله.

ومن هنا يبرز تفاؤل أبو مازن، فهو في اجتماعاته مع المعارضة لا يسمع كلاما مخالفا لما نقوله هنا، فالمعارضة هي وجهة النظر الأخرى وليست البندقية الموجهة ضد السلطة. ولذلك فهو ينادي بوقف عسكرة الانتفاضة من دون ان يطالب بوقف مطالبها المحقة التي جاء الى الحكم من أجلها والتي تدعمه السلطة بسببها ومن أجلها ايضا.

خامسا: يعرف أبو مازن ـ وربما اكثر من غيره ـ ان الشعب الفلسطيني قدم من الدماء والدموع والقهر والجوع والاحباط ما لم يقدمه أي شعب في أي مكان وزمان منذ طوفان نوح. ويعرف أبو مازن ان شعب الجبارين مستعد للتضحية وسكب مزيد من الدماء والدموع.. لكنه يعرف ان الشعب الفلسطيني لا يريد ان يبكي ويجوع ويضحي لمجرد البكاء والعنتريات. فإذا رأى هذا الشعب ان بكاءه وجوعه يذهبان على أفراح أو على ألاعيب الآخرين، فسوف يغضب والويل الويل اذا غضب الشعب الفلسطيني وقرر الانتقام. ولذلك يريد أبو مازن فترة سماح أو فترة هدنة كي يخفف بعض الشيء عن كاهل هذا الشعب العظيم، ويلحق الاسرائيلي الى باب الدار «فإذا كان صادقا سوف نرى نتائج صدقه. واذا كان يريد اللعب على الكلام.. أو كسب الوقت، فعندئذ سيكون الرأي الامريكي والرأي الدولي وجميع من يحب السلام والديمقراطية معنا بكل ما نستخدم من وسائل للانتقام من الذي حاول ان يلعب بقضيتنا».

سادسا: ويعرف أبو مازن.. وربما اكثر من غيره ان الشعب الفلسطيني وافق بغالبيته على الحل السلمي الذي أصبح اطاره معروفا.. وهو: دولة فلسطينية سيدة حرة مستقلة على الأرض التي احتلتها اسرائيل في حرب 1967، يضاف الى ذلك، تطبيق قرار حق العودة لمن يرغب والتعويض على من لا يرغب.. أو من لم يعد على قيد الحياة.

ومن خلال ما وضعته الادارة الامريكية على خارطة الطريق، يمكن القول ان الولايات المتحدة جادة هذه المرة في تحقيق بنود هذه الخارطة وسواء كانت جديتها من أجل انجاح جورج بوش في الانتخابات المقبلة.. أو من أجل كسب ود العرب الذين اغتاظوا بسبب «فلتانها» السياسي وقبحها العسكري والدبلوماسي، ومطالبها المذلة.. فالذي يريده الفلسطينيون هو دولة مستقلة مسالمة قادرة على الحياة، شأنهم في ذلك شأن جميع شعوب العالم.. حيث ليس على سطح الارض اليوم شعب من دون دولة سوى الشعب الفلسطيني. ولذلك تقدم أبو مازن لحمل راية السلام المبني على العدل أولا وعلى القرارات الدولية ثانيا.. وعلى خارطة الطريق الامريكية ثالثا.

فإذا ضغطت واشنطن لقيام هذه الدولة فنحن وأبو مازن وواشنطن بألف خير. واذا لم يكن سدادها على قدر وعودها، فعندئذ يكون للشعب الفلسطيني وفي طليعته أبو مازن الحق في جعل الانتفاضة قدراً مهماً ولاسرائيل الى يوم الدين. ولا شك في ان أبو مازن يعرف في قرارة نفسه ان الايام المقبلة ليست الفرصة الأخيرة أمام أمن اسرائيل وراحة شعبها، بل لعلها الفرصة الأخيرة امام الولايات المتحدة الامريكية كي تستعيد سمعتها وهيبتها ومصداقيتها من براثن اسرائيل.