الوطن وسالم

TT

يوم أن غادرت مدينتي الغالية للعمل في بريطانيا لم أستطع حينها أن أتخلى عن البيت الذي أستأجره، حملت أغراضا كثيرة بعضها في حقائب، وأخرى في صناديق عدا ما يمكن حمله في الجيوب وباليد. كنت أشعر ان ما أخذته معي كثير وثقيل. لكن ما لم استطع حمله كان بالنسبة لي كبيرا لا يمكن ان يضاف الى محتويات الحقائب من الملابس، والمستلزمات الشخصية، ولا يمكن تعليبه في صندوق شأنه شأن الاحتياجات الحياتية الأخرى.

أبقيت المنزل الخالي مستأجرا وأودعته الطمأنينة الغريزية التي فطرت عليها. انها شعور داخلي عميق لا يمكن نقله من مكان الى آخر، ولا تعويضه بلحظات فرح بريئة كتلك التي نسافر من أجلها، هربا من حرارة الطقس أو تعويضا عن ضغوط العمل ومتاعب الحياة.

انه شعور لا يتغير كما يتغير مزاجنا تبعا لحالة الطقس، ولا يتبدل بانتقالنا الى وظائف أخرى وليست له ألوان ربطات العنق، ولا موديلات كانالي، وتصميمات أرماني.

يقول مثل غربي شائع «تستطيع أن تأخذ سالم الى خارج الوطن، ولكنك لا تستطيع أن تأخذ الوطن من سالم» وأحسب أن زملينا الكاتب القدير خالد القشطيني سيزيد عليه او يغير في صيغته بحيث يكون «تستطيع اقناع سالم بوجاهة احتلال وطنه، لكن لا يمكنك اقناعه بانك تملك ان تبقى الى الأبد». هذه ليست مداعبة، بل حقيقة مؤلمة تقرأها في عيون كل المهاجرين حينما يتحدثون عما يحدث هناك على بعد آلاف الكيلومترات من حيث يعيشون.

أحاديثهم المعتادة عن مصاعب الحياة وهموم المعيشة تتحول الى آهات عميقة على واقع هم أول من اختار الرحيل عنه، تأملات مريرة وتحليلات عميقة وقراءة في كل التفاصيل، انهم يبحثون عن اجابة هربوا سنين طويلة من مواجهتها.

الطمأنينة على الحال، والخوف من المستقبل، والرغبة في حماية الأولاد وابعادهم عن معاناة العيش في وطنهم، أجبرتهم على تجرع مرارة الغربة. والكوارث والمآسي الدموية التي تحدث في ديارهم تذكرهم بأن أمل العودة الذي يعيشون من أجله ما زال بعيدا، وهذا ما يضفي على أحاديثهم مسحة حزن عميق، وأسى مريراً.

بالنسبة لي الحال مختلف، فلا ضيق فرص العمل دعاني للرحيل، ولا غياب الأمن أملى علي قبول فكرة الانتقال الى بلد آخر، ولا أبالغ اذا ما قلت ان الاستقرار وعدم القلق حببا إلي فكرة خوض تجربة عملية جديدة على أمل العودة منها بخبرات مفيدة. لذلك أعيد صياغة المثل أعلاه على وقع الاحداث الأخيرة في الرياض، والمدينة، ومكة، والجوف بطريقة تختلف عن تلك التي يمكن أن يعبر بها أهلنا في العراق عن واقع الحال لتكون «يستطيع سالم ان يكون ارهابيا لكنه لن يبقى سالما اذا ما اراد أن يسلب أمن الوطن وطمأنينته».

تجريم الإرهاب بالادانة الكلامية لن يمسح الصدمة التي أصابتنا، وتكريس التعبير عن رفضه بالأدلة والوقائع لن يعالج المرارة التي تسللت الى نفوسنا. نريد نظاما صارما يمنع السفر بزعم الجهاد، ويعاقب كل من يتجاوزه بقدر جرمه. نريد تحديد جرائم التحريض على الارهاب بالقول وتمويله بالفعل وعقوبات كل منها، نريد ان نحرم كل من تسول له نفسه المساس بأمن الوطن وطمأنينته لذة الشعور بالنوم أو الراحة، ومطاردة كل الصامتين على تحركات الخلايا الارهابية، ومعاقبتهم على أفعالهم باعتبارها جميعا تندرج تحت بند خيانة الأمة، والإخلال بأمن الوطن.

[email protected]