خواطر حول المهنة (4) «صحيفة الأمة»

TT

كانت الصحف المصرية، وخصوصا "الاهرام" تقوم مقام ما يسمى في الغرب "صحف الامة"، او الصحيفة "الوطنية"، لتمييزها عن صحيفة المدينة او المقاطعة. وكانت "الاهرام" قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها وبعدها، ومن ثم بعد الثورة، هي الصحيفة العربية التي تصل متأخرة بضعة ايام الى جدة او صنعاء او صيدا، لكن الناس تتجمع لقراءتها، وتعتمد معلوماتها وآراءها. واستمرت هذه المسألة سنوات طويلة بعد الثورة حيث غلب عليها بالتحديد مقال هيكل الاسبوعي. لكن مع السادات عادت مصر الى الداخل. وحل موسى صبري مكان هيكل. وقد تعرفت اليه في قمة الدار البيضاء اواخر الثمانينات في مقاعد الصحافيين. وكنت يومها اكتب لـ"الشرق الأوسط" رسالة يومية عن دولة ما وقضية ما. وقال لي الرجل: "ها، متى ستكون الرسالة عن مصر"؟

كان العرب الاخرون يطرحون هذا السؤال على الصحافيين المصريين. لكن السادات اخرج مصر الى كامب ديفيد ووضع الصحافيين المصريين في السجون (وهي الطف بكثير من سجون عبد الناصر في اي حال) فانحسرت القاهرة الى الداخل تهتم بشؤونها وصارت العناوين الكبرى في "الاهرام" كل يوم، عن تدشين سد او بحيرة او افتتاح مصنع للقطن.

فقدت مصر في وقت واحد الاذاعة العربية (او القومية) والصحيفة العربية ولم يأخذ تلفزيونها ذلك المجد الذي عرفته الصحافة أو الإذاعة. ومعهما انتهى عصر السيادة على الاغنية بغياب عمالقتها، هرماً بعد هرم، وبقيت السينما وحدها من بين الفنون الانسانية تؤثر في النفس العربية وتأسرها. وشمل التراجع الى الداخل المجلات الكبرى وكتابها الكبار الذين عرفوا في مرحلة طويلة جمهوراً اسطورياً من الناس، وخصوصاً من العرب. وارجو الا يأتي الرد على هذا الكلام بافتتاحية شتم، بل التعامل مع هذا الشعور العام برفع مستوى الصحافة ومحاولة العودة الى العصر الذهبي، ومحاولة البحث بين الكفاءات المصرية عن احسان عبد القدوس جديد، وعن كامل زهيري شاب، وعن رجل يمكن ان يشبه احمد بهاء الدين، وعن صلاح جاهين آخر. اما الرد علي بالشتم فلا يزيد عدداً في التوزيع ولا ينقص عددا.

كانت "الشرق الاوسط" اول تجربة "عربية" بعد الصحافة المصرية. وقد تحولت "النهار" الى جريدة واسعة التأثير والانتشار لمرحلة غير طويلة، قطعتها الحرب اللبنانية. ثم حملت "الشرق الاوسط" الى لندن تجربة الانتشار الدولي والهوية العربية المتعددة، معززة بامكانات ومقومات الاستمرار من دون الوقوع في ما وقعت فيه المجلات والصحف التي لم تستطع الصمود في وجه متطلبات اوروبا، والطبعات المتعددة. ثم

انتقلت مع مجيء عثمان العمير من مرحلة الى مرحلة، وتحققت معه فسحات كبرى من الحرية كان يرسمها هشام ومحمد علي حافظ ويطالبان بها. ومع عبد الرحمن الراشد انتقلت ايضا الى مرحلة جديدة. واتسعت فيها الفسحات وكثرت التعددية الفكرية. واذ مرت 25 عاماً على صدورها من "فليت ستريت" تسجل "الشرق الاوسط" اول تجربة من نوعها في تاريخ الصحافة العربية. فهي، توزيعاً وانتشاراً ومدى، متقدمة الف ضعف على الاقل على "اهرام" الخمسينات. وهي جريدة مربحة تطبع في اقطار الارض وليست جريدة نظام توزّع بالاكراه.