تخطيط سيئ لعراق ما بعد الحرب

TT

لا بدّ أن الرئيس بوش كان محظوظا لعدم العثور حتى الآن على أسلحة الدمار الشامل في العراق. لأننا لو عثرنا على هذه الأسلحة فإن التركيز سوف ينصب كليا على المسألة الحقيقية مجسدة في السؤال التالي: لماذا كان استعداد إدارة بوش لمواجهة عراق ما بعد الحرب ضعيفا إلى هذا الحد، في الوقت الذي كانت الادارة شديدة الحماس للدخول في الحرب نفسها وظلت تبشر بها لوقت طويل جدا.

مع ذلك ما زلت على قناعة من إمكانية جعل العراق مكانا محترما إذا توفرت الجهود المناسبة. لكن هذه المهمة أصبحت أكثر صعوبة بسبب التخطيط البائس للبنتاغون لعراق ما بعد الحرب. فإذا كان ممكنا تجاوز هفوات البنتاغون ـ وأنا آمل بذلك ـ فإنه يتوجب علينا أن نتعلم منها في الحروب المقبلة. وإذا لم يتمكن مسؤولو البنتاغون من تجاوزها فإنهم سيكونون الطرف الخاسر في نقاش السنة المقبلة قبل الانتخابات الرئاسية بما يخص الملف العراقي.

لنبدأ أولا مع أكبر فشل في مجال التحليل وقع فيه البنتاغون، فحينما قرر مسؤولوه بدء الحرب ضد العراق، كانوا قد افترضوا أن مهمة الحرب الأساسية هي قطع رأس الجيش العراقي والشرطة السرية والبيروقراطية، وإبعاد أنصار صدام حسين عن مواقع السلطة، ثم البدء بإدارة العراق من خلال ما يتبقى من الجيش والمؤسسات البيروقراطية والشرطة أنفسهم.

لكن ما جرى كان عكس كل توقعات هؤلاء المسؤولين، لأن كل هذه الأجهزة انهارت تاركة وراءها فراغا أمنيا وإداريا لم يكن الجيش الأميركي مهيأ أبدا لملئه. فالقوات الأميركية وصلت إلى العراق مع عدد قليل جدا من الشرطة العسكرية والموظفين المتخصصين في القضايا المدنية لإدارة البلد. ونتيجة لذلك كانت الطريقة الوحيدة المطروحة أمام الوحدات الأميركية لإيقاف عمليات النهب الواسعة هي القيام بالشيء الوحيد الذي تجيد فعله: إطلاق الرصاص على الناس. ولأنهم لم يكونوا يريدون أن يقوموا بذلك، ولأن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي بدا كما لو كان مؤمنا بأن وقوع قدر قليل من عمليات النهب مقبول، مما يسمح للعراقيين بتفريغ جزء من الغضب الكامن في دواخلهم منذ فترة طويلة، وهذا ما أدى إلى سرقة وتدمير البنية التحتية للدوائر الحكومية وأجهزة النفط، بل وحتى المواقع النووية، ونتيجة لذلك، لم نبدأ من نقطة الصفر في العراق بل من تحت الصفر. (كان فشل البنتاغون في حماية المواقع النووية المعروفة أمرا غير قابل للتصديق).

أي طرف على معرفة بعمليات قوات حلف الناتو في البوسنة وكوسوفو، يدرك أننا بحاجة إلى جيشين لهذا الغزو، الأول يتكون من القوة المحاربة التي تقوم بضرب نظام صدام، والثانية تتبع خطوات الأولى، وتتكون من قوة من الشرطة العسكرية وفرق الضباط المعنيين في القضايا المدنية لغرض إيصال رسالتنا للناس. ولقد هيأ البنتاغون القوة الاولى بشكل رائع لكنه لم يهيئ القوة الثانية.

لذلك فإن المرء يواجه حوادث مثل تلك التي وقعت في الأسبوع الماضي، حينما أطلِقت النار على جنود عراقيين جائعين كانوا يحتجون على عدم تسلمهم رواتبهم عن الفترة السابقة، مما أدى إلى مقتل اثنين منهم ـ إنها طريقة ممتازة لكسب الأصدقاء ـ والسبب يعود إلى أن قواتنا غير مدربة للسيطرة على حشود كبيرة من الناس، وهذا هو عمل الشرطة العسكرية. ومعظم الذين نبعثهم الآن ليؤدوا عمل الشرطة العسكرية في مهام إعادة بناء العراق، هم من جنود الاحتياط، وحاليا، هناك نقص في العدد المطلوب من أفراد هذه القوة، وهذا ما كان على البنتاغون أن يشخصه ويصححه عن طريق إعادة هيكلة قواتنا العسكرية.

وبسبب نقص عدد الجنود والشرطة العسكرية في العراق، أصبحنا غير قادرين على التحكم بحدود العراق مع سوريا وإيران، أو حماية أنابيب النفط من عمليات التخريب. ونتيجة لذلك أصبح ممكنا بالنسبة للمقاتلين العرب أن يتسللوا عبر الحدود للمشاركة في المعارك ضدنا، وأصبح بإمكان الناشطين الإيرانيين أن يعبروا الحدود من جانبهم، وأصبح تفجير أنابيب النفط عملا يوميا.

أما بالنسبة لأسلحة الدمار الشامل، فقد ظل المسؤولون في إدارة بوش يرددون أن العراق بحجم كاليفورنيا ومن الصعب القيام بتفتيشه. هذا صحيح، لكن صدام حسين والدائرة الصغيرة المقربة إليه لا تزيد عن فريق من فرق كرة القدم، ونحن اعتقلنا أكثر من نصفهم، لذلك من غير المفهوم بالنسبة لي أن لا يكون لدى أي منهم أي شيء يكشفه بهذا الشكل أو ذاك حول أسلحة الدمار الشامل. ولا بدّ أنه سيكون بامكان قارئ الحظ عبر ورق اللعب الخاص أن يكشف من خلال هؤلاء الناس، اكثر مما تمكن البنتاغون من الحصول حتى الآن. وقال لي دبلوماسي غربي، إن فريق المحققين التابع للبنتاغون قد فشل في إدارة التحقيق، والآن أصبحت هذه المسؤولية بيد الـ«سي آي إيه».

ومع غياب أي خطة واضحة لدى البنتاغون لإعادة تشكيل عراق ما بعد الحرب سياسيا، راح البنتاغون يعوض ذلك عن طريق التجربة والخطأ. وبدلا من أن تكون هناك يد حازمة من القمة توجه العملية، عين البنتاغون أولا الجنرال سيئ الطالع جاي غارنر لإدارة العراق، ثم تم تبديله بشخص أكثر أناقة هو بول بريمر، لكن الشيء المهم، هو أن وقتا مهما قد تمت اضاعته مما مكن رجال الدين المسلمين من ملء الفراغ الإداري في الكثير من المناطق. ينبغي علينا أن ننشئ سلطة عراقية علمانية قريبا.

يمكن القول إن نجاح إعادة بناء العراق، هو المفتاح الرئيسي للاحتفاظ بمكانة الولايات المتحدة في العالم، لكن يبدو أن بوش ورامسفيلد يتعاملان مع هذه المسألة كأنها تجربة مختبرية يستطيعان من خلالها شراء إعادة بناء وطن بأقل ما يمكن من التكاليف.

ومثلما قال لي ضابط من قوات المارينز: هناك شيء يجب قوله في ما يخص شن حرب بتكاليف رخيصة: إذا كنت تريد خوض حرب على هذا الأساس، فإن مسألة اختيار هذا البلد أو ذاك لخوض الحرب ضده، لن تكون ذات أهمية.

*خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»