الوثوب إلى الحداثة

TT

للأسف لم تكن الديمقراطية اختياراً حراً على مدار التاريخ البشري، وحتى عندما يتحدث المفكرون عن الفوائد الجمة التي يمكن أن تعود على المجتمع لو أن سلطات الحكم والتشريع والقضاء قد طُبقت على الأساس الديمقراطي بواسطة انتخاب الناس للحكام ولممثليهم من المراقبين والمشرعين والقضاة، فإن تطبيق الديمقراطية لا يتحقق إلا اذا كانت هي المخرج من مأزق اجتماعي قد يؤدي إلى انفجارات كبرى. فهل أصبحت المجتمعات العربية تقف على هذه الحافة الخطرة؟

الواقع أن هذا صحيح. فسبب تهميش الناس وتجريدهم من المشاركة في تدبير أمور حياتهم فضلاً عن التغييرات الكبرى التي حدثت في التركيبات الاجتماعية والتي تقتضي بالتالي تغييراً في النظام السياسي الذي يحكمهم والذي لم يعد مناسباً لحاجاتهم وتطلعاتهم الجديدة، تحدث الاختناقات هنا وهناك، ويبدأ المجتمع في انتاج تنظيمات سرية تخرج في شكل انفجارات بين وقت وآخر، بينما تنتشر ثقافات العنف والتعصب، فضلاً عن الإنحلال الذي ينتشر في كل المواقع بما في ذلك مواقع السلطة، حيث تشيع الرشوة والفساد بكل انواعه. وهذه ظواهر واضحة في الكثير من المجتمعات العربية.

وبالنسبة لمصر بصفة خاصة، وعلى الرغم من التشويهات التي طالت التركيبات الاجتماعية منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى الآن، سواء بفعل احتكارات محمد علي الاقتصادية القمعية على الرغم من شكلها التحديثي ولا أقول الحداثي، أو بفعل قوات الدول المتحالفة ضد مصر التي انهت كل المؤسسات الصناعية في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني منه إلى الاحتلال البريطاني في الربع الأخير من ذلك القرن، حيث اعيد توزيع الثروة بشكل ما أدى الى وجود قوى اجتماعية موالية للاستعمار. على الرغم من كل ذلك فإن الطبقات المتطلعة الى الديمقراطية تحقيقا لمصالحها كانت موجودة دائماً، وكانت تحاول الوصول إلى اهدافها بالطرق المتاحة لها. وكانت ثورة سنة 1919 تعبيراً قوياً عن هذه المطالب كما كانت ثورة 23 يوليو سنة 1952 تعبيراً تالياً عن هذه المطالب ايضا. حقاً إن النشاط الاقتصادي بما فيه الصناعة كان يتحكم فيه الاجانب، ولكن الطبقة الوسطى المصرية التي نجحت في ثورتها الأولى سنة 1919 في أن تكون الضلع الثالث لسلطة الحكم التي كانت ممثلة في سلطة الاحتلال البريطاني ثم سلطة القصر، نجحت ايضا في التوسع وعبرت عن طموحاتها بأشكال مختلفة منها اقتحام الأنشطة الاقتصادية الحديثة مثل الصناعات والمصارف ومنشآتها المالية، فضلاً عن الاجتهادات الثقافية التي تجلت في انشاء الصحف والفنون التشكيلية والمسرحية والأدبية مما شكل بالفعل نهضة عامة طموحة تأسست في الواقع على ما يمكن ان نسميه مشروعاً حداثياً من الناحية الفكرية ايضا، وطوال فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت هذه الطبقة تقاتل على مستوى جبهتين: القصر والاحتلال الأجنبي ولهذا كانت ثورة 23 يوليو 1952 تعبيراً عن طموحات هذه الطبقة التي كانت طموحاتها تقمع بين وقت وآخر الى أن تفجرت ثورتها عن طريق ضباط في الجيش يعبرون في الأساس عن طموحات هذه الطبقة ومشروعاتها التي تشتمل على مصالح للطبقات الأخرى، وبصفة خاصة للفلاحين.

ومنذ بداية الثورة في سنة 1952 حتى وفاة عبد الناصر سنة 1970 صار للكثير من رجال السلطة نوع من ادخار أو تراكم لرأس المال ينشد حرية ما للخروج الى مجال الاستثمار الخاص، وأظن أنه لهذا السبب لم يجد انقلاب انور السادات على نظام الاقتصاد الموجه وقيوده على الاستثمار معارضة حقيقية أو مؤثرة من جانب قيادات هذه الطبقة بصفة خاصة ، وأياً كانت مواقعهم في السلطة أو خارجها. وبالفعل حدث «الانفتاح الاقتصادي» دون أي اضطرابات ذات شأن أو معارضة لسياسة «الانفتاح» الجديدة.

حقاً أفاد الانفتاح قيادات الطبقة الحاكمة ولكن الاقتصاد الذي ظل مركزا في القطاع العام احتاج الى وقت والى اجراءات صارت فيها سلطة الحكم توزع المغانم الاقتصادية على الافراد والقوى المرتبطة بها بغاية اعادة بناء شرائح جديدة من الملاك والمستثمرين. وكان هذا في الواقع تشويها آخر، اذ ظلت سلطة الدولة هي مصدر الثروة وليس المشروع الاستثماري وما فيه من مخاطرات وجنوح الى تشريعات حرة وقضاء محايد وسيادة للقانون وتمثل حقيقي في برلمان موضوعي يعبر عن المصالح الجديدة.

وهكذا مضت ثلاثون سنة تقريبا منذ بداية السبعينات حتى الآن تم فيها فك القطاع العام، ونشأت فيها مصالح جديدة، واعيد فيها تشكيل الشرائح الاجتماعية، ولكن دون أن يحدث تغيير يرفع تحكم السلطة في مصائر الثروات والأفراد، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يكون مقبولاً من القوة الجديدة أو من الطبقات الاخرى التي تحولت مؤسساتها المدنية الى مراكز شكلية تتحكم فيها سلطة الحكم من خلال أجهزتها الأمنية في الاساس. ولم تستطع الانتخابات المزيفة والتي تأتي دائما بممثلين حريصين، بحكم اختيارهم بواسطة اجهزة السلطة، على الحفاظ على الأوضاع القائمة، أن تعبر عن المصالح المتعددة للقوى الاجتماعية وأن تحقق التوازن الذي يحدث عادة نتيجة للديمقراطية وطابعها التعددي وقدرتها على الوصول الى الوسط الذهبي الذي يؤجل الصدامات الاجتماعية أو يحد منها، ونتيجة لهذه الاضطرابات صارت أجهزة السلطة في واد والشارع بشرائحه المختلفة في واد آخر، وبالتالي راحت قطاعات واسعة تبحث عن مرجعية اخرى وشرعية اخرى. ولأسباب عديدة كان الناس في مصر قد قبلوا ما يسمى بالشرعية الثورية، ومنذ السبعينات كانت هذه الشرعية قد انتهت بفعل السلطة ذاتها وأرجعت الشرعية الى صندوق الانتخاب والمرجعية الشعبية، ولكن هذا التحول البالغ الأهمية لم يتحقق في شكله الصحيح. وعلى الرغم من ان قطاعات شعبية عديدة تشمل المثقفين والمنتجين عامة تطلب الشرعية الديمقراطية الا أن القطاعات الأكثر راديكالية راحت تتجه الى المرجعية الاسلامية كمصدر للشرعية.

والواقع أن الملابسات البالغة التعقيد التي تمر بها المجتمعات العربية، ومنها مصر بطبيعة الحال، تضيف مؤثرات اخرى شديدة التأثير على العمل السياسي والفكري منها الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والتحيزات الأمريكية بل والتدخلات العنيفة في العالم الاسلامي ابتداء من افغانستان الى العراق الى التهديد لايران والضغوط على المجتمع التركي وتوجهاته الاسلامية، والكثير من الافعال والاقوال التي تستثير الاحاسيس الاسلامية وبالتالي تعبئ الناس ضدها وتعبد الطريق أمام العناصر الراديكالية الاسلامية لاستقطاب الانصار. وفي نظم قامعة يهرب الناس عادة الى الدين وحيث تستوي الحياة والموت فيصبح العنف المميت، حتى لمرتكبيه، عملية استشهادية تعطي للموت ميزة على الحياة.

والآن، ومع كل هذه الملابسات المعقدة، تبدو الديمقراطية مخرجاً وحيداً لكل القوى اللاعبة في الشرق الأوسط بصفة خاصة، وفي العالم الاسلامي وربما في أرجاء العالم الثالث كله، فهي مخرج للأزمة التي نراها في المجتمع المصري حتى تستقيم أمور الإصلاح الاقتصادي الذي تتعثر أموره في أغلب مجالاته ويستعيد المجتمع قواه وقدراته على مواجهة التحديات العديدة، سواء مشاكل الداخل أو التحدي الاسرائيلي والتحيز الأمريكي، والآن احتمالات العدوان العسكري الأمريكي.

ومن الناحية الأخرى فإن الولايات المتحدة ذاتها وجدت في الديمقراطية حجة قوية تضغط بها على السلطات المختلفة في البلاد العربية، ويؤيدها في ذلك سائر العالم المتقدم، ومهما يكن اختلاف التصورات حول الأسباب التي تتحرك بها الدعوة الى الديمقراطية فإنها تبدو حلاً لا مفر منه، سواء للشعوب العربية أو حتى للقوى الدولية وان كانت تنشد منها مجرد تنفيس الاختناقات الناتجة عن القمع السياسي.

وها نحن نرى الآن الاضطرابات في ايران وقد نرى لها آثاراً مختلفة على الرأي العام في المجتمعات العربية، فهناك اشتباه بأن وراءها مطامع امريكية اذ انها قامت ضد السلطة الحالية في نفس الوقت الذي تهاجمها فيه الولايات المتحدة وتتوعدها بالحرب، بينما تقف الكثير من القوى المستنيرة حائرة، اذ تعلم ان المطلب الديمقراطي او الاصلاح السياسي مسألة اساسية في المجتمع الايراني. ويبدو ان القوى السياسية في المجتمعات العربية والاسلامية عليها ان تجد حلاً لهذا التناقض بين الديمقراطية وما وراءها من شبهات الآن بسبب «ازدواجية» النظر التي تمارسها الولايات المتحدة في نزاعات الشرق الأوسط بصفة خاصة، وبين الراديكالية الاسلامية التي تقاوم الديمقراطية بعنف كما نرى في ايران، وها نحن نرى ايضا مثل هذا الموقف في السودان الذي يرى بعض مفكريه وسياسييه ان نظاما علمانيا كفيل لو تحقق في العاصمة السودانية بنزع فتيل الحرب بين الشمال والجنوب. اما على الساحة التركية فالوضع مقلوب، اذ ان الاتجاه العلماني في تركيا يقوم بنفس القمع ضد الاتجاهات الاسلامية. وعلى الجانبين صار من الضروري، ليس اللجوء الى الديمقراطية كحل لهذه النزاعات الطاحنة فحسب، بل الى الفكر الاسلامي القادر على الوثوب الى الحداثة، وتجاوز فكر العصور الوسطى، والتوافق مع النظام الديمقراطي.

[email protected]