العودة إلى النبع

TT

لم يكن الأستاذ أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في المغرب، بعيدا عن تشخيص الواقع حينما قال قبل أحداث 16/ 5 في الدار البيضاء إن الجماعات المتطرفة الداعية إلى العنف هي فئات شاذة وهامشية. فها هي ردود الفعل التي تلت الأحداث الفاجعة التي ألمت بالمغرب، تثبت أن تلك الجماعات هي فعلا محدودة الانتشار، وأن الشعب المغربي في غالبيته العظمى يستنكرها ويناهض أفكارها. فلم يوجد من يبرر ما قامت به من جرائم وما كانت تنويه من فساد. وأكثر من ذلك أن عمل تلك الفئات زرع روحا جديدة في المسيرة النهضوية بالمغرب، وإصرارا على استكمال تلك المسيرة ومحاصرة جيوب المقاومة الجاذبة إلى الخلف.

وزير الداخلية السابق، السيد إدريس البصري، كتب بدوره أن الحديث الذي سرى عن تنظيمات السلفية الجهادية وما ارتبط بها كانت تحفه المبالغة. وهو شخص له حساباته التي تدعوه إلى إبداء مثل هذا الرأي. كما أن جهات حقوقية أبدت تحفظها من تجاوز الضمانات القانونية من قبل الجهات الأمنية في تتبع نشاط الجماعات المتطرفة، وحذرت من الانزلاق عن أدوات دولة القانون. وفي الجوهر لم يكن أحد يبيح لنفسه أن يدافع عن المهددين للأمن العام ولمصالح البلاد سواء تعلق الأمر بالخلية النائمة للقاعدة أو الجماعات الإجرامية الأخرى التي وقع الكشف عنها.

في مثل هذه المواقف تأتي ردود الفعل من كل جهة حسب اقتناعاتها ومشاربها الفكرية والسياسية، بل حتى تبعا لحسابات انتخابوية. وهكذا قد ينزلق البعض نحو المقاربة الاستئصالية، والبعض الآخر نحو التساهل مع بعض الممارسات والظواهر.

والآن تبين أن الجسم المغربي سليم، وأن الظواهر الشاذة والهامشية هي شاذة وهامشية. إلا أن أحداث 16/ 5 خدشت ذلك الاطمئنان الذي كان يساور المغاربة، وأبانت عن كبير الضرر الذي يمكن أن تلحقه بالمسيرة الهادئة للمغاربة نحو تغيير أحوالهم إلى ما هو أفضل، جماعات محدودة العدد والأثر لا تتورع عن القتل والتخريب.

وقد أدت أحداث 16/ 5 إلى صحوة عارمة زادت من الالتفاف الوطني حول المشروع الديموقراطي الحداثي، الذي هو في حد ذاته عودة إلى مسيرة منسجمة انطلقت مع الاستقلال لبناء دولة ديموقراطية وعصرية تحل محل المخزن التقليدي، وذلك في سياق مشروع تبلور طيلة النضال الوطني، حيث كانت المظاهرات تخرج من المسجد تعبيرا عن تمسك الجماهير بهويتها، والبرامج تصاغ في مكتب الحزب تعبيرا عن الرغبة في اللحاق بركب التقدم، والرأي العام الوطني يتبلور في تعددية تعبيرا عن قبول المغاربة لتنوعهم، والكل بقيادة المؤسسة الملكية المؤتمنة على السيادة الوطنية.

تتميز الحركة الوطنية المغربية عن غيرها من الحركات السياسية التي عرفتها البلاد العربية والأفريقية بأنها عرفت استمرارا في الزمن. فلم يحدث انقطاع في مسيرتها منذ الثلاثينات، مما سمح لها بتراكم الخبرة والتجربة وبتطوير مقارباتها ومقترحاتها مع الزمن. وتصدت الحركة للإصلاح الفكري والاجتماعي مؤلبة النصاب الوطني الكفيل ببلورة الإجماع الوطني حول الثوابت ضدا على الاستعمار والرجعية المتواطئة معه.

كان الإصلاح الديني من المهام الأولية للحركة الوطنية، فتصدت للشعوذة والتواكلية الاستسلامية، واكتسحت أفكارها المجتمع، وكان قادتها يملأون الجوامع ويتصدرون الحركة الأدبية ويبدعون في المسرح والرياضة، وفي نفس الوقت يطالبون بتحديد ساعات العمل وبالضمان الاجتماعي للعمال، وبتعليم المرأة وبتمتيعها بحقوقها المدنية. ونظمت العمل الجمعوي، ولم تترك الحركة الوطنية المجال الديني للمخرفين الجامدين، كما انها لم تترك التحديث لخطاب مغترب، سواء جاء من اليمين أو اليسار، وقدمت برنامجا متكاملا للشعب المغربي تتزاوج فيه الحداثة والقيم المغربية المنسجمة مع التقدم.

وخاضت الحركة الوطنية المغربية منذ وقت مبكر حوار الحضارات، فكانت لقادتها مناقشات مع الاشتراكيين والديموقراطيين المسيحيين على قدم المساواة والتقدير المتبادل. وتمت أحيانا كثيرة التقاءات بين الفكر الوطني المغربي ومختلف العائلات الفكرية الأوربية خاصة في الساحة الفرنسية، وأحسنت الحركة الوطنية المغربية تقديم برنامجها فأيدها ساسة من طراز رينوديل الاشتراكي، وفرانسوا مورياك المسيحي الكاثوليكي، وأورطيغا إي غاسيط، رائد الحداثوية الأوربية في إسبانيا. وعبر الأجيال تدرب الفكر الوطني المغربي طيلة سبعين سنة ونيف، على طرح قضاياه وإشكالاته في وضوح كفكر يحذوه التمسك بالهوية الخاصة، ويسعى إلى الاندماج في العصر عبر أدواته هو.

وكذلك كان حواره مع المشرق العربي الإسلامي واضحا قوامه الالتقاء في الأهداف الكبرى وهي العاطفة الدينية المتأججة، والتضامن النزيه في دائرة الحفاظ على الشخصية المغربية المتميزة برصيدها وتجربتها. فلم يحدث أن انتحلت الحركات السياسية الوطنية المغربية انتماءات عابرة للأوطان مما كان يسود في مختلف الفترات. ولم يكن قط في المغرب فرع للناصرية ولا للبعثية ولا للإخوانية. حتى الحركة الشيوعية المغربية كانت معالمها المغربية أوضح مما عرف عن الحركة الماركسية في العالم العربي.

يشير هذا إلى ميل المغاربة إلى الاغتراف من معينهم الخاص، والى تفضيلهم للتوحد في المذاهب تبعا لنبوغهم الخاص، وعزوفهم عن تلقي المدد الفكري من الخارج. وهذا الهاجس وضعهم طيلة التاريخ في اختبارات، كان الفوز فيها غالبا لهاجس وحدوي. واليوم أيضا يتعرض هذا الهاجس للاختبار بسبب تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي حطمت الحدود ونمّت حظوظ التعددية. وبالفعل فإن التعددية المذهبية في المجال الديني مطروحة بنفس الزخم الذي يطرحه التعدد السياسي. وهذا الاختبار لا يمكن خوضه إلا بالجدل والمحاججة. ومن جديد فإن دولة القانون، والانفتاح الفكري في شتى المجالات، هما من التحديات التي تجابه المغاربة في سياق دقيق.

لقد انطلق وتبلور الفكر الوطني المغربي في إطار الشخصية المغربية التي تعبر عن نفسها في شتى المظاهر، وظل ذلك ملازما للممارسة السياسية والفكرية في مختلف المراحل، انسجاما مع إسلام متفتح ووسطي ومتسامح، وتمشيا مع تقاليد التعايش والمواطنة وتضافر الجهود لبناء دولة عصرية وديموقراطية.

في 1954 قرر الفتى سيرج فيردوغو (رئيس التجمع اليهودي المغربي في العالم حاليا، ووزير السياحة في التسعينات) أن يلتحق بحزب الاستقلال تعبيرا عن رغبته في الانضمام إلى حركة تحررية تتصدى لتهيئ مستقبل البلاد. وطلب من المرحوم بن حماد المسؤول المحلي للحزب في مكناس التعرف على الشكليات التي يتطلبها الانضمام إلى الحزب. ودون أن يدري وجد أن مبادرته ستؤدي إلى إحداث اجتهاد قانوني في تاريخ الحزب.

كان الانضمام إلى الحزب قبل الثمانينات يتم بمقتضى أداء اليمين على المصحف. وبيردوغو يهودي. وهو لا يريد أن يكون انضمامه للحزب مجرد قرار سياسي، كما حدث مع كثير غيره من اليهود الذي تصنفوا سياسيا مع الحزب. إنه يريد أن يكون مناضلا في القاعدة. وهنا حدثت مفاجأة مزدوجة. بن حماد يواجه موقفا فريدا هو الأول من نوعه. وفيردوغو يفاجأ بأن الخطوة الأولى للانضمام للحزب هي أداء اليمين علي المصحف. وهنا طلب بن حماد من الشاب بيردوغو مهلة للاستشارة. وطلب بيردوغو بدوره مهلة. واتفقا على التلاقي في ما بعد. وفي اليوم الموالي جاء كل منهما لصاحبه بفتوى كانت متطابقة. قال بن حماد إن «الحل» هو ان يتم أداء اليمين على التوارة، على أساس كل يؤدي اليمين وفق الكتاب الذي يؤمن به. وقال بيردوغو إن الحزان (الحاخام) أبلغه فتوى مماثلة. وتم انخراط الشاب بيردوغو في الحزب مثل كثير غيره. وحتى الستينات كان مرشحون يهود كثيرون تضمهم لوائح حزب الاستقلال في الانتخابات.

هذه الحكاية، التي عمرها تقريبا خمسون سنة، تحيلنا على تراث زاخر بالمعاني والدروس. تدلنا على أن المغاربة اهتدوا دائما إلى سبل تسهل تنظيم تعايشهم، انطلاقا من فكرة قبول الاختلاف والتعايش مع التنوع، وتحقيقا لرغبة التلاقي في كنف العمل الجماعي الهادف لبناء مغرب أفضل لا يجد غضاضة في أن يحافظ على قيمه في غمرة الانخراط في العصر.

وكذلك كان الشأن مع حقوق المرأة. فقد كانت الحركة الوطنية رائدة في إقحام المرأة في التعليم رغم معارضة المحافظين، وكان من أول الإصلاحات التي أتى بها الاستقلال مدونة لقوانين الأحوال الشخصية أنصفت المرأة وحررتها من كثير من القيود التي سادت في زمن التخلف وفتح ذلك الإصلاح باب الاجتهاد الذي يجب أن يتدخل من جديد اليوم لمواجهة مطالب وأوضاع جديدة. وتمثل المرأة اليوم 60 في المائة أو يزيد في بعض الكليات العليا، وتحتل مناصب قيادية في الإدارة وفي القضاء والجيش. وسارت قافلة الإصلاح تاركة وراءها الذين حكموا على أنفسهم بالبقاء في مؤخرة القافلة.

وفي يوم 11 مايو، قبيل الأحداث الدامية بأيام كان راليي النساء المنظم في الدار البيضاء تعبيرا عن انطلاق المرأة المغربية العصرية. وكان من المنتظر أن تشارك فيه 1500 امرأة، فوقع إقبال أكثر مما توقعه المنظمون، إذ شاركت فيه أكثر من عشرة آلاف امرأة ساهمن في السباق تعبيرا عن إرادتهن في توطيد مشاركتهن في الحياة في كل مجالاتها مصداقا لقول الحسن الثاني رحمه الله «إن الدرع المكين ضد التطرف هو تحرير المرأة».