ميثاق العمل الوطني البحريني.. مبادرة الأمير وعنق الزجاجة

TT

بين يديّ نسخة من مسودة ميثاق العمل الوطني لدولة البحرين الذي عرض على اللجنة العليا، التي أنشأها الأمير الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2000. وتكونت اللجنة من 46 عضوا برئاسة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة، وزير العدل والشؤون الإسلامية، وضمت وزراء ورئيس مجلس الشورى وأعضاء من مجلس الشورى ومحامين ورجال أعمال ومهندسين وأطباء وغيرهم من مختلف التخصصات. وقد ترك اللجنة أربعة أعضاء وعين ستة أعضاء جدد بينهم رئيس جامعة البحرين الدكتور محمد جاسم.

وقد كثر اللغط والحوار والنقاشات في البحرين حول مسودة المشروع، بين مؤيد ومعارض، وبين مستوضح للأمر، لا سيما بعد إعلان الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة، وزير الدولة لشؤون الديوان الأميري، أن الملكية الدستورية ليست أمراً غريباً أن تقترح، فدستور 1973، ينص على وراثية الحكم وبالتالي يعني الملكية الدستورية.

ولم يخل الحديث العام حول مسألة الملكية من عواطف جيّاشة، ولم يقترب كثيرا من صلب الأمور التي هي في رأيي تتلخص في المنهجية القانونية لإضافة أو تعديل أو حذف مواد دستورية.

ومن الأمور المهمة الأخرى التي تتعرض لها الوثيقة، مسألة الفصل بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بالإضافة إلى اقتراح إنشاء مجلسين، أحدهما بالانتخاب العام المباشر من قبل المواطنين (ربما من الجنسين)، والآخر معين (مجلس الشورى) من ذوي الخبرة والاختصاص، وتكون لكلا المجلسين سلطة تشريعية.

في هذا المقال سنحاول التطرق إلى أهم نقاط مسودة العمل الوطني البحريني المعروضة على اللجنة، التي لا بد أن تنتهي منها وتقرّ صيغة ما قبل 2000/12/23، وهو موعد المؤتمر الشعبي العام الذي سيضم 2000 من البحرينيين سيدعوهم الأمير لمناقشة الصيغة النهائية ومن ثم اقتراحها لتصدر القوانين اللازمة باعتمادها ميثاقا وطنيا.

وبادئ ذي بدء، لا بد من الإشارة إلى أن المعروض على اللجنة الوطنية العليا هو ميثاق عمل وطني وليس دستورا جديدا يحل محل دستور البلاد الذي أقرّه مجلس تأسيس نصف منتخب عام 1973، ووقع عليه الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة ورئيس المجلس التأسيسي الأديب إبراهيم العريض. كما لا بد من الإشارة إلى أن مسودة المشروع التي تناقشها ما زالت مسودة، كما هو اسمها، وبالتالي فقد يكون استباق للحديث وتسرّع في الحكم اعتبارها الصيغة النهائية للميثاق.

أولا: تغيير اسم البحرين من «دولة أو إمارة» إلى «مملكة»، وهنا تجدر الإشارة إلى أن لكلا التسميتين جذورهما في التاريخ الإنساني عموما وفي تاريخ البحرين خصوصاً، بل ان اتفاقية «الخط الأزرق» بين الامبراطوريتين البريطانية والعثمانية وابن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية في عام 1913 أشار إلى «مملكة البحرين» و«مملكة عمان»، إلا أن الأهم في هذا الموضوع هو أن إطلاق اسم «مملكة» لا يعتبر تحضّرا ولا تخلفا، فهناك ممالك دستورية في أوروبا الغربية، كالبريطانية والاسبانية والدنماركية وغيرها لا تقل ممارسة الديمقراطية فيها عن الجمهوريات كالأميركية والفرنسية وغيرهما. أضف إلى ذلك أن كون الحكم في البحرين وراثيا يجعل من مسألة التحول إلى ملكية دستورية تحصيل حاصل، لا يستدعي التشنج النفسي الذي قد يشعر به المرء لو قررت جمهورية من الجمهوريات أن تتحول إلى مملكة، أو مملكة أن تتحول إلى جمهورية. ولربما الأهم والأولى في النقاش الهادئ هو ذلك الذي يناقش محتوى الكيان الجديد وكيف يتم فيه تنظيم العلاقة بين «الملك» والشعب؟ وهل ستعتمد العلاقة على الحقوق والواجبات الدستورية المنصوص عليها في الدستور البحريني لكل أطراف المجتمع أم لا؟ وهل أن ما نحن قادمون عليه خطوة ونقلة إلى الأمام في ما يخص هذه العلاقة أم المراوحة في مكاننا؟، وهل سيؤدي كل ذلك لحماية البلاد كياناً ووطناً أم إضعافها؟

ثانيا: نظام المجلسين، مجلس نيابي منتخب ومجلس شورى معين. ولعل هذا النهج يعتبر أكثر منه تقهقرا إلى الخلف، ذلك أنه يستجيب في جانب لرغبات الشعب في أن يمثل في إدارة شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغيرها، وممارسة دور التشريع ومحاسبة السلطة التنفيذية (السياسية)، وهذا ما طالبت به المعارضة منذ عام 1975، يوم علّق العمل بالمجلس الوطني آنذاك. كما أنه من جهة أخرى يوفر منبرا لذوي الخبرة والاختصاص لإمداد العملية السياسية بما تحتاجه من ثمار العمل الماضي، بتأكيد إيجابياته وتحاشي سلبياته، وبالتالي خلق درجة من التوازن الفكري والعملي في الجهاز التشريعي للدولة الحديثة.

المهم جدا، بل الأمر الحاسم، هو طبيعة العلاقات بين المجلسين، وتحديد من له الكلمة الأخيرة عند اختلافهما على أمر ما، وهذه تفاصيل لم تدخل الوثيقة المعروضة في صلبها. ولنأخذ مثلا في بريطانيا، فإذا قرر البريطانيون تقديم مشاريع بقوانين، تجرى قراءة أولى في مجلس العموم (المنتخب). ويتخذ القرار بالأغلبية، ويحال الأمر لمجلس اللوردات (المعين)، الذي يبدي رأيه في المشروع. فإذا كانت لديه تعديلات أو إضافات أو حذوفات، أوصى بها وأحالها لمجلس العموم للإعداد لقراءة ثانية. وبعد تصويت مجلس العموم مرة أخرى آخذاً في الاعتبار ملاحظات اللوردات واقتراحاتهم، يحال للمجلس المعين لإبداء رأيه في الصياغة الثانية. فإذا قرر مجلس اللوردات موافقته أو عدمها ترسل الصياغة لمجلس العموم، فإذا أقر هذا الأخير صياغة القراءة الثالثة أصبحت قانونا، حتى لو لم يوافق مجلس اللوردات. مع الإشارة إلى أن العلاقة بين المجلسين والتداخل الحزبي هو بمكان، يصبح من النادر أن يتجاوز نواب العموم كثيرا على رغبات اللوردات واقتراحاتهم. وإذا حصل، يصبح من الأخبار المهمة جدا، كما حصل أخيرا لتحديد سن الشواذ بـ 16 سنة بدلا من 18. وحبذا لو انتصر المجلس المعين على المجلس المنتخب. وفي الواقع، فإن مجلس اللوردات يمارس دور المحافظ العاقل لمنع استبداد الجهازين التنفيذي أو التشريعي.

على أي حال، فالعلاقة بين المجلسين هي التي تحتاج لمناقشة مستفيضة من قبل السياسيين والقانونيين، وليس صيرورتهما أو عدمهما. مع الاعتراف أن دستور البحرين لا ينص على وجود مجلس معين إلى جانب المنتخب، وهذه مسألة أخرى سنأتي اليها.

ثالثا: تشير الوثيقة إلى أمور، كقضية المجلسين المترادفين وغيرها مما ينص عليه دستور 1973. تعديل الدستور كما يشير البعض، هو مربط الفرس، الذي ربما أدى إلى انسحاب أربعة أعضاء من اللجنة، حيث تم استبدالهم. فالدستور البحريني نص على آلية يتم بموجبها تعديله، حيث يشترط مرور 5 سنوات على إقراره. وهو شرط استوفي عام 1978، كما أنه، وهذا هو الأهم، يشترط التعديل بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس الوطني المنتخب.

وما يعرف من مسودة الوثيقة (الميثاق) أنها مشروع صياغة لمؤتمر عام سيعقد في 2000/11/23، سيضم 2000 من شخصيات المجتمع البحريني، وهي آلية التجأ إليها الأمير كما يبدو لتغيّب المجلس الوطني. وهناك رأيان حول هذا الموضوع.

الرأي الأول مفاده أن الدستور البحريني هو عقد قانوني، بين طرفيه، الحكومة والشعب، ربطهما برباط وطني تاريخي يحدد واجبات وحقوق الدولة والمواطن، ويحدد مواقع وصلاحيات السلطات المختلفة في الدولة والعناصر الداخلية في تكوينها، وأن هذا العقد الاجتماعي يستمد قوته من كونه محترما من قبل كل الأطراف الداخلة فيه، وأنه أب للقوانين ومرجعها ولا يجوز بالتالي التعدي عليه. ويقول أصحاب هذا الرأي، انه من يضمن أن الميثاق الوطني سيظل محكم الرباط إذا سمحوا له أن يحل رباط ما كان يفترض أنه أكثر إحكاماً منه، أي الدستور. وعلى هذا الأساس فإنهم يتوجسّون خيفة من مجرد المساس ولو بمادة واحدة من الدستور. أما الرأي الآخر فهو القائل إن الدستور دائم، وينال من الدعم والاحترام ما يستحقه كمصدر للشرعية ومرجع للقوانين التي تنظم حياة الناس في البلاد. وهذا الرأي يضيف أن الدستور وضع قبل 27 عاماً، وأن الحياة قد تغيرت وتقدمت منذ ذلك اليوم، وان احتياجات وآمال وآلام المجتمع قد تغيرت، وأن البلاد مرت بأحداث كثيرة وما زالت تستوجب إعادة النظر في بعض الدستور، مع بقاء الجسم العام سالماً، من أجل مواكبة تحديات وفرص المرحلة المقبلة. بكلمة أخرى وصريحة، يمكن استقراء خلفية هذا الرأي بتشبيه الأوضاع في البلاد بأن العمل السياسي الوطني يمرّ بعنق زجاجة ضيق، أملاه تاريخ ربع القرن الأخير من القرن الماضي. وأن مبادرة الأمير هي الآلية الوحيدة المتوفرة لقيادة العمل الوطني خروجاً من مأزق عنق الزجاجة هذا، إلى عالم ووضع أكثر رحابة.

ولهذين الرأيين حججهما العديدة وأطروحاتهما المتعارضة، وضغوطاتهما الشديدة فكرياً وقانونياً، والتي يجب بلا شك أن تحترم وتقدر وتؤخذ في الحسبان، وبالتالي يجب أن ينصبّ البحث على صيغة عمل سياسية ـ قانونية تأخذ الوطن والمواطنين إلى الأمام، ويعتمد هذا على قدرة مختلف المشاركين في الحوار الوطني على استيعاب أهمية المرحلة التاريخية وما تحتويه من تحديات خطيرة جدا على مستقبل البحرين، أهمها الناتج عن عدم الاتفاق أو التوافق. ومن الضروري احترام الاختلاف في الرأي، وإفساح الصدور والعقول للآراء الأخرى، وتجنب إطلاق النعوت والأوصاف العاطفية الدوغمائية أو المتعالية من قبل أي طرف على آخر، لأن ذلك لا يؤدي إلاّ إلى اتساع الفجوة وشق عصا الأمة.

رابعا: أشارت الوثيقة إلى ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث، التنفيذية (السياسية) والقضائية والتشريعية، معتبرة ذلك من الأسس والقيم الضرورية للدولة الحديثة، إلا أنها أغفلت الإشارة إلى ضرورة وجود ديوان للمحاسبة والمظالم، كي يتوفر للناس ملجأ منظم شرعي يتكئون على العودة إليه لضمان عدم التلاعب بالمال العام وعدم تجاوز من له سلطة على الآخرين الحدود المرسومة له، كما أغفلت الوثيقة في هذا المجال ضرورة استقلال الادعاء العام عن وزارة الداخلية، التي قد تكون طرفاً أحياناً أمام المحاكم، وإلحاق ديوان وموظفي هذا الجهاز الحساس بوزارة العدل.

في الختام لا بد من إعادة الإشارة إلى أن ما أفهمه من مسودة ميثاق العمل الوطني أنها مسودة، وأن الميثاق ليس بديلا عن الدستور البحريني، بل يؤكد مرجعيته على الرغم مما يوحي بتعديل بعض مواده، وعليه فإن تمسك طرفي عقد الدستور به لا يتزحزح، لكنه بالطبع ليس قرآنا منزلاً لا يقبل التعديل والتطوير، فهو نفسه يعترف باحتمال قصوره عندما سن طريقة لتعديله. كما لا بد من تكرار الرغبة في ضرورة أن ننأى بالحوار عن ضيق الأيديولوجيات الجامدة، والانطلاق برحابة إلى مناقشة مساحات الحرية والعمل المشترك بين الحكومة والشعب.

* باحث استراتيجي بحريني