لنجرب محاولة إحباط «الفيتو» الأميركي

TT

اذا كان «الفيتو» الاميركي يقف حائلا دون تمكين الأمم المتحدة من ارسال قوات دولية لحماية الفلسطينيين من العدوان الاسرائيلي المستمر، فلماذا لا نفكر في بديل آخر يحقق المراد، ولا تطاله اليد الاميركية؟

أنا مع الذين فقدوا ثقتهم في دور المنظمة الدولية، التي أصبحت الى حد كبير تأتمر بأمر الادارة الاميركية، خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وتعاظم الدور الاميركي الذي يكاد يصل الى حد الهيمنة على القرار الدولي وتطويعه في خدمة المصالح والأهواء الاميركية، وهذا الذي أدعو اليه أملي في تحقيقه ضعيف للغاية، لأسباب سأذكرها حالا، ونسبة هذا الأمل تكاد تصل الى 5 في المائة، وهو ما يعني ان الأمل موجود ولم ينعدم تماما.

صحيح أيضا ان اسرائيل لم تُكِن احتراما لقرارات الأمم المتحدة يوما ما، وتحمست ورحبت بقرار واحد صدر عنها، هو الاعتراف بدولة اسرائيل، لكنها رفضت بعد ذلك قرارات الجمعية العامة، حتى قرار التقسيم لم تلتزم به، صحيح ايضا ان اسرائيل مصرة على اخراج الأمم المتحدة من مساعي السلام، التي تستهدف حل قضية فلسطين، لكن ذلك لا يمنعنا من المحاولة التي اشير اليها، فاذا قبلت بنتائجها فهذا هو المراد، واذا رفضت فقد انفضحت، وسجلت عليها نقطة في خانة الخصم وصحيفة «السوابق».

البديل الذي اتحدث عنه يتمثل في العمل على استصدار قرار من الجمعية العامة بتشكيل القوة الدولية المطلوبة لحماية الفلسطينيين وكبح جماع الحماقات الاسرائيلية، أدري ان الموضوع معروض على مجلس الأمن، ويعلم الجميع انه ما دام الأمر كذلك، فلن يرى القرار النور، بسبب جوهري هو ان الفيتو الاميركي لن يسمح باتخاذ أية خطوة ترفضها اسرائيل، حيث المعلوم ان الولايات المتحدة تلعب في مجلس الأمن دور الكفيل والراعي الذي يقطع الطريق على أي ادانة أو حساب لحكومة تل ابيب، على أي جرم ارتكبته بحق العرب.

لحسن الحظ فهناك سابقة واجهت فيها واشنطن مازقا مماثلا في مجلس الأمن كان ذلك عام 1950، حين ارادت الولايات المتحدة استصدار قرار من الأمم المتحدة أثناء الحرب بين الكوريتين الشمالية التي ايدتها بكين وموسكو والجنوبية المؤيدة من جانب الادارة الاميركية، حاولت واشنطن استصدار هذا القرار من مجلس الأمن ولكنها عجزت عن ذلك، بسبب الفيتو السوفياتي، ونتيجة لذلك الفيتو فان مجلس الأمن وصل الى طريق مسدود في بحثه المسألة، ولم يستطع أن ينهض بمهمته الاساسية المتمثلة في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

ماذا فعلت الولايات المتحدة لكي تحصل على القرار وتحبط مفعول «الفيتو» السوفياتي، الدبلوماسيون المخضرمون واساتذة القانون الدولي يعرفون جيدا الاجابة عن السؤال. ذلك ان واشنطن لجأت الى الجمعية العامة، التي تعد السلطة العليا في المنظمة الدولية، ولا مجال لاستخدام الفيتو فيها يخص قراراتها، وبضغوطها واتصالاتها نجحت في استصدار قرار شهير عرف باسم «الاتحاد من أجل السلام» حقق للاميركيين مطلبهم، في تغطية التدخل الدولي الذي قادته واشنطن مع حلفائها أثناء الحرب بين الكوريتين، وهو ما تم رغم انف الزعماء السوفيات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يصدر فيها قرار من هذا القبيل عن الجمعية العامة.

تجربة الالتفاف على مجلس الأمن، واللجوء الى الجمعية العامة تكررت بعد الحرب الكورية، حيث نجحت في اعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 56، الذي اشتركت في تدبيره آنذاك انجلترا وفرنسا، بالتواطؤ مع اسرائيل، ولأن الدولتين الأوليين من اعضاء مجلس الأمن، وتملكان بدورهما حق «الفيتو»، فان القرارات التي صدرت بشأن وقف العدوان وازالة آثاره صدرت بعد عرض الموضوع على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقضت تلك القرارات بما يلي:

ـ الوقف الفوري لاطلاق النار.

ـ انسحاب القوات المعتدية البريطانية والفرنسية والاسرائيلية من الاراضي المصرية.

ـ انشاء قوة طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة، لأول مرة في تاريخ المنظمة الدولية، عهدت اليها الجمعية العامة بحراسة الحدود بين مصر واسرائيل، لمنع الاشتباك بين قوات البلدين.

ـ تكفلت الأمم المتحدة بتطهير قناة السويس من 58 قطعة بحرية، كانت القيادة العسكرية المصرية قد أمرت باغراقها في القناة حتى لا تستخدمها القوات المعتدية في تنفيذ مخططاتها لغزو مصر.

كان اصدار القرارات على هذا النحو انتصارا سياسيا كبيرا لمصر، حتى احسبها من المرات القليلة بل النادرة التي هُزم فيها بلد عسكريا، لكنه انتصر سياسيا في المعركة التي فرضت عليه.

يعدد خبراء القانون الدولي تسع مرات عقدت فيها الجمعية العامة دورات استثنائية لمناقشة قضايا كانت تهدد الأمن والسلام الدوليين، واستعصى حلها في مجلس الأمن بسبب سلاح «الفيتو» الذي تشهره الدول الكبرى الاعضاء فيه، والملاحظ في كل تلك الحالات، منذ بدأت عملية الالتفاف على المجلس في الحرب الكورية أمران: الأول انها جمعيا تمت في ظل مرحلة الحرب الباردة والصراع المحتدم بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وبين الاتحاد السوفياتي، والثاني ان احدى الدول الكبرى أو بعضها كانت صاحبة مصلحة في استصدار القرارات من الجمعية العامة.

هل يمكن ان تتكرر التجربة الآن، بحيث تستطيع الدول العربية استصدار قرار من الجمعية العامة يعالج ملف الصراع العربي ـ الاسرائيلي؟

وجهة النظر التي ترد بالايجاب تراهن على ثلاثة عوامل: الأول الاغلبية التي يتمتع بها العالم الثالث في الجمعية العامة، والثاني القوة النسبية للدول العربية المتمثلة في ورقة النفط، وهي قوة يمكن ان تكون فاعلة أكثر اذا تعززت بتأييد كل من ايران واندونيسيا ونيجيريا. أما العامل الثالث فيتمثل في العلاقات الايجابية التي تربط بين بعض الدول العربية وبعض الدول الكبرى الأخرى الاعضاء في مجلس الأمن مثل روسيا وفرنسا والصين.

غير ان حجة الذين يرون تعذر انجاز هذه الخطوة تبدو أقوى، وهم يرون ان الأمر اختلف تماما بعد انتهاء الحرب الباردة، وفي ظل تعاظم دور الولايات المتحدة في ساحة القرار الدولي، وهيمنتها على الجمعية العامة للأمم المتحدة، فضلا عن مجلس الأمن هم يقرون بأن المسألة ممكنة من الناحية القانونية، لكنها تبدو مستحيلة من الناحية العملية بسبب الاعتبار الاميركي الذي ذكرته توا.

يرى هؤلاء ان الاغلبية التي يملكها العالم الثالث في الجمعية العامة لم تعد فاعلة، وان اوروبا لم تعد مستعدة في المرحلة الحالية لاتخاذ أي موقف يخالف الادارة الاميركية، خصوصا في قضية بمثل حساسية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، الذي أصبحت واشنطن تستأثر بمعالجته، وترفض أي تدخل فيه سواء من جانب الأمم المتحدة أو الجماعة الأوروبية.

يعزز هؤلاء رأيهم بقولهم ان دول العالم الثالث أصبحت الآن أضعف بكثير من السابق، اذ زيادة على الأوضاع اليائسة التي تعيشها اغلب الدول الافريقية، التي جعلتها أكثر اعتمادا على الغرب في القروض وملحقاتها، فان غياب الاتحاد السوفياتي عن الساحة الدولية الذي كانت تستند اليه طيلة سنوات الحرب الباردة، فتت كثيرا من عضد تلك الدول وأضعف قدرتها على الخروج على الطوع الاميركي.

يضيفون: ان اوروبا أصبحت بدورها ملحقة بالسياسة الاميركية، وهو ما ظهر جليا في مواقف كثيرة، اقربها ما عبر عنه المشاركون الأوروبيون في ندوة مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الاردنية التي عقدت حديثا في عمان،حيث كان هناك اجماع بين المشاركين الأوروبيين، السياسيين والاكاديميين على حد سواء، انه ليس لدى المنظومة الأوروبية الارادة السياسية أو الرغبة الحقيقية في لعب أي دور تنافسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وعلى العكس من ذلك فقد شدد العديد منهم على أن الاتحاد الأوروبي يلعب دورا تكامليا مع واشنطن، خصوصا في ملف الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وحسب التقارير المنشورة، فان أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الالمانية ذهب الى ابعد من ذلك حين اعتبر ان دول المجموعة الاوروبية تعمل ضمن اطار معين، ترسم واشنطن معالمه وخارطته، ولا تسمح لهم بالقفز أو تخطي الخطوط الحمر المرسومة والمحددة لحركتهم.

وكانت أهم الخلاصات التي خرج بها المشاركون العرب بالندوة، ان الاوروبيين اعتبروا ان دورهم مكمل للسياسة الاميركية في الشرق الأوسط، وان العلاقات أو المصالح المباشرة الأوروبية ـ الاميركية مقدمة على أي شيء آخر، وليس مسموحا لأي قضية ان تخدش أو تؤثر على استقرار تلك العلاقات، وهو ما كان واضحا في اجتماع دول الاتحاد الأوروبي الأخير، والتي همشت كثيرا من الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ولم تقل كلمة في ادانة الوحشية الاسرائيلية المستخدمة في الانتفاضة الراهنة، وهو الموقف الذي وصفه عمرو موسى وزير خارجية مصر بانه «غير اخلاقي».

كما رأيت، فالأمل ضعيف في استصدار قرار منصف يحقق للفلسطينيين والعرب مرادهم من الجمعية العامة، لكني عرضت الفكرة باعتبار ان فيها بصيصا من الأمل، وكان ظني ولا يزال ان الأمر يظل جديرا بالمحاولة التي اذا لم تنفع فانها لن تضر يقيناً، وقد تفيد في تبصيرنا بحدود الأمل الذي يمكن ان نعلقه على الشرعية الدولية، في احقاق الحق بفلسطين، صحيح اننا لن نتوصل الى اكتشاف جديد، ولكن ذلك قد يزودنا باصرار أكبر على دعم ومواصلة الانتفاضة، حيث لم يعد هناك سبيل أو بديل آخر.