مستقبل فكرة «الإله» في الغرب

TT

«الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى» قرآن كريم ابتداء من هيوم ولوك وانتهاء بهيجل ونيتشه، وعلى مدى رحلة امتدت ثلاثة قرون للتوصل الى المعرفة اليقينية، تأرجح الفكر الغربي بين ثنائية العلم والذات، او الخارج والداخل، ولكنه ظل حذرا يتجنب العودة الى فكرة «الإله» الذي يتدخل في شؤون عباده. ولان الناس لا يستطيعون ان يعيشوا بدون ذروة عليا يقدسونها، لذا وفرت الحداثة بدائل لمقدسات الدين تحت مظلة فكرة «الوطن»، اذ صنعت الحداثة ذاكرة وطنية تتضمن تاريخاً ورموزاً وميثاقاً يتمرن على تقديسها النشء في مدارسهم. وفي ظل تقديم البديل وتنامي فكرة «الوطن» شهدت فكرة «الإله» تقهقرا في المجتمعات الغربية كشفت عنه مجلة «تايم» بعددها الصادر في 8 ابريل (نيسان) عام 1966، وذلك بغلاف مثير كتبت فوقه بالبنط العريض ?Is God Dead. وبقدر ما خدمت فكرة «الوطن» دعم الكيانات القومية السياسية، الا انها عجزت عن بلورة مبادئ اخلاقية تنظم هذه الفوضى المقرونة بالحريات الشاملة التي تسبح فيها المجتمعات الغربية. ويشعر المفكرون الغربيون ان هذا العجز سوف يتفاقم في ظل العولمة المادية والتكنولوجية والمصرفية والاستهلاكية، اذ ان ابرز آثار العولمة تكمن في تفكيك فكرة «الوطن» او الدولة/القوم، اي تفكيك الذروة العليا التي غذت جزءا يسيرا من حاجة الناس الى التقديس، وفي ظل عولمة تخرج من رحم حقبة نأت بعيدا عن الفكرة التقليدية لـ «الإله». وتبدأ حقبتها بتفكيك فكرة «الوطن» وتنتهي فيها المدارس الفلسفية الغربية الى استحالة المعرفة اليقينية سواء انطلقت من العلم او من الذات، حتى تتحول فيها حياة الانسان الغربي بلا قاعدة ثابتة وفوق ارض من رمال متحركة، ارضية لا تقف فوقها مرجعيات راكزة تحدد ادنى ما تحتاجه المجتمعات من معرفة معايير الخير والشر. ارضية لا توفر للسلطات ما يمد رعاياها بقيم عليا او اخلاق المسؤولية والالتزام. وفي مثل هذا الوضع يصبح الاهتمام بمكانة الشخص البشري ورسالته الروحية قضية مصيرية.

لقد ادرك المفكرون في الغرب ان العودة الى فكرة «الإله» تعد مخرجا للمأزق الذي انتهى اليه وضع الانسان الغربي في عصر العولمة، خاصة ان نسبة المؤمنين بفكرة «الإله» في تزايد مستمر في هذه الحقبة، غير ان الدراسات المستقبلية تشير الى ان تصور «الإله» في عصر العولمة لن يكون هو نفس التصور الذي جاءت به الاديان السماوية، ولعل ابرز الخصائص المعرضة للتطور او التغيير هي خاصية التوحيد. لقد كتب روبرت ميللير استاذ الفلسفة بكلية بروكدال في عدد اكتوبر (تشرين الاول) الماضي من مجلة «فيوتشريست» حول مستقبل فكرة «الإله». واوضح انه كما تأثرت هذه الفكرة بالآراء الفلسفية لعصر الحداثة، بدءا من لوك وانتهاء بنيتشه، فانها ستتأثر كذلك بكثير من النظريات الرائجة في عصر العولمة وبالاخص ما انتهت اليه نظريات اينشتاين في الفيزياء وما آلت اليه نظريات دارون في البيولوجيا. كما ستتأثر بالطابع التخصصي الذي صبغ الحياة العلمية والفكرية في الغرب. ويرى الكاتب كما ان انكار فكرة «الإله» باتت مرفوضة فإن الايمان بالفكرة التقليدية لـ «الإله» تتقلص امام الانتقادات. ويرى ان «إلهاً» ابدياً وسرمدياً وعظيماً وقادراً لا ينشأ الا في تصور خارج الزمان والمكان لا يمكن للعقل البشري استيعابه او فهمه. ولما كانت الحاجة الانسانية لـ «إله» مفهوما وقريب يمكن اللجوء اليه فإن تصورا لإله متنامٍ ومرتبطٍ بالزمن سيكون اكثر قبولا في الفكر الغربي. كما يرى ان فكرة وحدة الوجود الصوفية التي تقول بوجود الاله في كل مكان وكل شيء، يمكنها منح التصور الجديد خاصية مادية وملموسة للإله، مما ينسجم مع معطيات التطور العلمي.

هذا الحوار يكشف عن ان تخبطا سيصل الى مداه في رحلة الايمان عند الغربيين، وان تلك الآيات ـ التي افسح لها القرآن مساحات واسعة لمناقشة تصوره عن الاله ـ ستحتل الصدارة في مناقشات المسلمين مع الغربيين المنبهرين بهم. فاذا خاض الاسلام ابان الفكر الحداثي الغربي معركة مع الالحاد بجانب بقية الديانات، فإنه سيبقى هذه المرة وحيدا يحارب الشرك في مرحلة فكر ما بعد الحداثة. فلقد كان الشرك هو العدو الاول للتوحيد.