كيف يعمل المحافظون الأميركيون الجدد؟

TT

ألقى عدد من المقالات نشر في الأسابيع الأخيرة ضوءاً جديداً على نمط تفكير المحافظين الجدد الذين يبدو، حتى الآن، أن لديهم اليد الطولى في صياغة السياسة الخارجية لإدارة بوش.

وفي السنوات القليلة الماضية فقط جرى الانتباه الى هذه المجموعة الصغيرة ولكن المهمة من الآيديولوجيين. غير ان مطبوعات عدة تواصل نشر القصص والتحليلات عنها وعن جذور أفرادها الفكرية وطريقة عملهم. وقد يكون نجاح المحافظين الجدد الفريد الى حد كبير ـ سيرهم نحو الحرب مع العراق ـ هو ما أخرجهم، أخيراً، من الظلال ليضعهم أمام أنظار الناس.

ويجري الانتباه الى نجاحاتهم السابقة في الهيمنة على عدد من فرق البحث والمجلات المحافظة، والمناصب الرئيسية في جهاز السياسة الخارجية لادارة بوش، وشبكتهم الصغيرة ولكن المؤثرة من كتاب الأعمدة والمعلقين ممن وفروا لهم صياغة الجدال السياسي داخل وخارج الحكومة.

وفي الوقت الحالي أصبحت أسماء اللاعبين الأساسيين في هذه الحركة وعلاقاتهم المتبادلة معروفة. وسواء ربطت بينهم المصاهرات، أو جمعتهم مقاعد الدراسة، أو كان لهم أرباب عمل وأصدقاء ومعلمون مشتركون، أو ببساطة، يعيشون في الحي ذاته، فإن أفراد هذه المجموعة وعلاقتهم مع بعضهم بعضا باتت هدفاً للصحافيين من اليسار واليمين.

وما انتقل الى دائرة الضوء أيضاً هو الجذور السياسية لهؤلاء المحافظين الجدد. فقد كانوا ذات يوم، بشكل رئيسي، ديمقراطيين ليبراليين انطلقوا من رحم مجلة «كومينتاري» (وهي مجلة تمولها اللجنة اليهودية الأميركية)، ومكاتب الراحل هنري جاكسون (السناتور الديمقراطي الذي عرف بآرائه المتشددة في السياسة الخارجية). وحركة المحافظين الجدد هذه، التي كانت ما تزال فتية، هي التي قطعت أواصرها بسياسة الرئيس كارتر الخارجية المستندة الى حقوق الانسان، وعملت مع السياسي الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لم يكن معروفاً على نطاق واسع في حينه، وساعدت على التحريض على تحول ادارة ريغان الى سياسة خارجية تستند الى مقاومة «الارهاب الذي يرعاه السوفيات». وقد أثروا على رونالد ريغان، وتأثروا هم، بالمقابل، بإدارته.

غير أن هؤلاء المحافظين الجدد أنفسهم قد واجهوا الرفض، الى حد كبير، من جانب بوش الأب الذي سعى الى أجندة سياسة خارجية أكثر تقليدية، وكانوا خصوماً أشداء لإدارة كلينتون التي اعتمدت سياستها الخارجية على الاهتمام المتعدد الجوانب، وتعزيز التجارة، والسعي الى تسوية النزاعات عبر المفاوضات.

ويجري، الآن، تبني أطروحتهم في أواخر التسعينات بشأن السياسة الخارجية والعسكرية الأميركية، والموسومة «إعادة بناء دفاعات أميركا: الاستراتيجية، والقوى، والموارد في قرن جديد»، من جانب إدارة بوش الجديدة باعتبارها «استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية».

وتتجلى الميزة الأساسية لنمط تفكير المحافظين الجدد في اعتقادهم بأن على الولايات المتحدة أن تبسط هيمنتها السياسية والعسكرية في عالم ما بعد الحرب الباردة. وهذا هو ما أدى بهم الى دعم تخلي الولايات المتحدة عن عدد من الاتفاقيات والمؤتمرات الدولية والضغط من أجل الحرب المنفردة، الى حد كبير، على العراق.

وبينما كان الكثير من هذا معروفاً، فإن ما هو جديد نراه في المقالات التي تبحث في الأسس الفكرية لهذه الحركة، وتكشف عن تصورات بشأن نمط تفكيرهم السياسي.

وما دام عدد من المحافظين الجدد الأساسيين قد درسوا مع الفيلسوف السياسي ليو شتراوس، فإن عدداً من الباحثين قد تعمقوا في كتابات شتراوس ومريديه من أجل التوصل الى الأفكار التي صاغت الجانب العملي من ممارسة المحافظين الجدد. وفي المقالات التي نشرت تبرز ثلاثة مفاهيم رئيسية:

دور النخب

يصف ويليام فاف في مقالة له في «هيرالد تريبيون انترناشينال» أتباع شتراوس باعتبارهم «طائفة»، مشيرا الى ان شتراوس يعتقد أن «الحقيقة الجوهرية بشأن المجتمع والتاريخ البشري يجب أن تحملها نخبة وتمنع عن الآخرين الذين يفتقرون الى الثبات في التعامل مع الحقيقة».

ويقول ناقد آخر من أتباع شتراوس نقلت «نيويوركر» عنه نصاً ضافياً إن «شتراوس يعتقد ان رجال الدولة الكفوئين... يجب ان يعتمدوا على دائرة داخلية»، ويشير الى أن هذه هي الطريقة التي توصل إليها المحافظون الجدد في النظر الى أنفسهم.

الخداع كدبلوماسية

ويرتبط بالدور الهام الذي يلعبه أفراد النخب باعتبارهم حماة الحقيقة المفهوم القاضي بأن «الفلاسفة بحاجة الى قول الأكاذيب الشريفة ليس للناس فقط عموماً، وانما للسياسيين المتنفذين (الذين يقومون بخدمتهم)».

ويقول فاف إنه من وجهة نظرهم «من الضروري الكذب على الناس بشأن طبيعة الواقع السياسي... وتحتفظ النخبة بالحقيقة لنفسها... وهذا يمنحها عمق تفكير ونفوذاً لا يتمتع بهما الآخرون». وفي هذا السياق ذاته نقلت مقالة في «نيويوركر» عن أحد المحافظين الجدد، وهو مسؤول عن وحدة الاستخبارات الخاصة في وزارة الدفاع قوله إن «الخداع هو المعيار في الحياة السياسية».

الحاجة إلى خطر خارجي

ونقل عدد من المقالات التي نشرت، مؤخراً، عن كتاب شادية دروري الموسوم (ليو شتراوس واليمين الأميركي) قولها إن «شتراوس يعتقد ان النظام السياسي لا يمكن أن يكون مستقراً ما لم يتوافق مع وجود خطر خارجي. واذ يحذو حذو ميكافيلي فإنه يؤكد على أنه إذا لم يوجد خطر خارجي، فإن على المرء أن يبتدعه... ومن وجهة نظر شتراوس فإن على المرء أن يقاتل على الدوام... (وهذا يؤدي إلى) سياسة خارجية تتسم بالنزعة الحربية».

وإذ يضع كل هذه الأفكار سوية يصف جوشوا جونا مارشال، في مقالة له نشرت في «واشنطن مونثلي» الممارسة السياسية للمحافظين الجدد بتقديم درس من أيام ادارة ريغان: «لقد اتسع الاستعداد للخداع ـ لأنفسهم وللآخرين على حد سواء ـ بينما راح المحافظون الجدد يشعرون بارتياح أكبر مع هيمنتهم على السلطة. لقد قضى كثيرون سنوات ريغان وهم ينسقون الجهود في حروب دموية ضد وكلاء السوفيات في العالم الثالث، مصورين أموراً مثل قوات الكونترا النيكاراغوية وقتلة عاديين مثل جوناس سافيمبي الأنغولي باعتبارهم مقاتلين من أجل الحرية. وكان حضيض هذا الخداع فضيحة ايران ـ كونترا.

لكن المحافظين الجدد لم يمعنوا النظر في الأخطاء، بل ان تجربة لعب دور في اسقاط شر عظيم (مثل الاتحاد السوفياتي) أدى بهم الى اعتقاد معاكس من أنه أمر مقبول ان يخطئ المرء على نحو كبير، بل أن يكون خادعاً على نحو وقح بشأن التفاصيل، ما دام يتمتع برؤية أخلاقية واستعداد لاستخدام القوة.

ان الكثير من هذا يجد صداه في الأحداث التي تكشفت والتي أدت الى الحرب على العراق. وما يلفت الأنظار أنه بينما كانت تلك الحرب انتصاراً كبيراً للمحافظين الجدد، فإن أكاذيبهم ربما تكون قد أسهمت في التأثير على سمعتهم. فقبل الحرب، على سبيل المثال، أكد الجيش النظامي للولايات المتحدة على أن خطط الحرب وسيناريوهات ما بعد الحرب التي صاغها آيديولوجيو المحافظين الجدد كانت غير ملائمة، ويبدو الآن ان الجنرالات كانوا على صواب. فقد اعتمد التبرير الكلي للإجراء الوقائي الانفرادي على «الخطر المباشر» الذي طرحته مصادر استخبارات المحافظين الجدد. وحتى اذا ما اكتشفت دلائل على وجود أسلحة الدمار الشامل، فقد أصبح من الصعب، على نحو متزايد، الدفاع عن «إلحاح الخطر» الذي شكله النظام العراقي. وقبل الحرب كان المحافظون الجدد قد صوروا الحرب باعتبارها بداية «ثورة دائمة» ستؤدي، بطريقة تشبه لعبة الدومينو، الى دمقرطة وتحويل الشرق الأوسط بأسره. وقد يواصلون تهديد سورية وايران، غير ان استمرار الفوضى في العراق قد أوقف، كما يبدو، شهية ادارة بوش بالنسبة للأجندة الاقليمية الأوسع للمحافظين الجدد. وقد يكون من السابق لأوانه التقليل من مكانة المحافظين الجدد والحديث عن أفول نجمهم، كما يشير بعض المحافظين التقليديين في الوقت الحالي. ولكن هناك دلائل على ان ادارة بوش تميل الى اتجاه مختلف نوعاً ما. فالرئيس بوش، على أية حال، أقر خارطة الطريق التي عارضها كثير من المحافظين الجدد، ويبدو أن وزارة الخارجية تعود الى احتلال مكانتها في ادارة عملية السلام على علاتها. وقد ساعد وزير الخارجية كولن باول على تحريك الوضع مع سورية. وعندما شن بعض المحافظين الجدد هجوماً على باول وعموم وزارة الخارجية على هذا المسعى هب البيت الأبيض دفاعاً عن باول.

وارتباطاً بخطط الخبراء الاستراتيجيين السياسيين في ادارة بوش بشأن اعادة انتخاب الرئيس، يشير أحد المحللين الى ان «هناك الكثير من انكماش الحيوية بالنسبة لزمرة المحافظين الجدد». ويلقي بعض المسؤولين في البيت الأبيض باللوم على «المحافظين الجدد»، وشخصيات معينة في وزارة الدفاع على عدم كفاءة خططهم لفترة ما بعد الحرب، ودفعهم باتجاه «فرض السلام الأميركي على العالم».

وفي الوقت الحالي قد يكون من السابق لأوانه التنبؤ بكيفية حل هذا الصراع داخل ادارة بوش. غير ان الدروس بشأن نمط تفكير المحافظين الجدد وممارساتهم، المستقاة من الجولة الأخيرة، دروس قيمة، ولا بد من تذكرها ونحن نمضي الى أمام.

[email protected]