الفكر ونقاد السوء

TT

الحرب الثقافية الباردة لم تكن كلها باردة، فالأدق وصفا ان نقول انها كانت مثل صراع الازواج (هبة ساخنة هبة باردة) الساخنة بالنسبة للروس مع الصين والباردة مع الولايات المتحدة.

وفي ذلك الدهر القريب الذي صار يبدو بعيدا، من كثرة ما مر على رؤوسنا من مصائب، جند الروس كل فلاسفتهم ومنظريهم للرد على طروحات ماوتسي تونغ واصدروا كتابا ضخما بكل اللغات الحية والميتة اسمه ـ نقد المفاهيم النظرية لماوتسي تونغ ـ شارك فيه كل المنظرين المهمين الذين لم يعد لاهميتهم يتذكرهم احد (سيميونوف ـ بليماك ـ كريفستوف ـ غيورغييف).

وقد نقد هؤلاء كل كلمة نطقها او كتبها الزعيم الصيني واخرجوه من غبائهم في النهاية حمارا باذنين مصلومتين وبردعة مع ان الانسان قد يصيب بالصدفة وليس من الضروري ان يكون مخطئا على طول الخط.

والان وبعد ان ذهب المنقود ونقاد السوء نكتشف ان الكثير من اراء ماوتسي تونغ كانت دقيقة الى حد كبير وما يزال بعضها حيا وحيويا وقابلا للتأثير والتطوير.

لقد انكروا عليه نظرية (المنطقة الوسطى) وملخصها ان التناقض الرئيسي للعصر ليس بين الدول الاشتراكية والعالم الرأسمالي بل بين الولايات المتحدة والمنطقة الوسطى التي تشمل آسيا بما فيها الصين واوروبا التي لم تكن قد حسمت امرها تماما اثناء صراع تلك الافكار، وكل من يدقق في خارطة الصراع العالمي يجد ان الصراع الاميركي الاوروبي القادم كان مرئيا لاصحاب الرؤية الثاقبة وكل ما كانت تفعله اميركا هو العمل على تأجيله، وبعد ان تهاوت الدول الاشتراكية وخرجت من حلبة الصراع ظلت الصين والمحور الاسيوي واوروبا.

وضحك الفلاسفة الروس في كتابهم الآنف الذكر من الزعيم الصيني وسفهوه لانه قال ان الاتحاد السوفييتي خان العرب في الصراع العربي ـ الاسرائيلي وقالوا انه يريد تحريضهم للتدخل مباشرة في ذلك الصراع الحامي لوضع العالم على حافة حرب نووية وكانوا، قبل سنوات من اول هزيمة ماحقة للعرب امام الصهاينة عام 67، قد وضعوا العالم على تلك الحافة لاسباب اخف وفي منطقة اقل اهمية لنفوذهم، وسواء كان موقفهم الخيانة للعرب او اللامبالاة بهم فالنتيجة واحدة والعرب يستحقون الاثنتين لان من لا يعتمد على نفسه ومن لا يجيد بناء تحالفاته عليه ان يتوقع ما هو ادهى من اللامبالاة والخيانة اذا كان هناك ما هو ادهى.

وزعموا ان الموقف الاستراتيجي للقيادة الصينية الذي حدده ماو يتلخص في انه كلما كانت الامور اسوأ كانت الحلول اقرب واذا كانت الولايات المتحدة صادقة جزئيا في تحريك الازمة الشرق اوسطية باتجاه الحل بعد حرب العراق فلا يوجد في عالم الفكر ما هو ادق من تلك النظرية الماوية المبنية على تجربة، فقد استلم الصينيون بلدا ممزقا بالحروب ومسطولا بالافيون وفي قاع السوء وها هو اليوم قوة عظمى يحسب حسابها.

وهناك فصل كامل في نقد ثورة ماو الثقافية يحببك بها من كثرة ما يفبرك لها من اخطاء، وهذه من ميزات النقد غير الموضوعي الذي يؤدي دوما الى نتائج عكسية، فلا تحزن اذا انتقدوك بما ليس فيك لانهم يؤدون لافكارك خدمة مجانية من جهة لم تتوقعها، ولا تستعجل الرد فالزمن ناقد كبير يغربل كل شيء ويصفيه بحيث لا يصح الا الصحيح ولا يمكث في الارض من سوء حظ نقاد السوء غير الزبدة وما ينفع الناس، اما الزبد فيذهب ويتبخر ولو بعد حين فالفكر الحقيقي الذي يبقى زمانا بعد صاحبه له عرشه المصان الذي ينهض على الثلاثية الذهبية المتوازنة: عقل حاد وضمير حي وبصيرة ثاقبة ترى الاشياء قبل حدوثها، وتلك ميزة كل فكر انساني عظيم.