مفكر للأمة.. كيف يتم اختياره؟

TT

..هذا الروسي «تريجنيف» كان مبالغا جدا عندما اطلق عبارة ظالمة لكل ادباء روسيا العظماء وهو واحد منهم قال فيها: «نحن كلنا خرجنا من داخل معطف جوجول» وهو يعني مواطنه الشهير «نيكولاي جوجول» صاحب قصة (المعطف). لو كان هذا الكلام صادقا وحقيقيا لكان «جوجول» هو مفكر روسيا الاول. كان بلا شك من اعظم الروائيين ومن ابرز صانعي الاساليب الفذة والتعابير الأخاذة، ولكنه كان متشائما، معذب الضمير، مائع الاخلاق، ساخرا بمرارة دامية وكان بالفعل رجلا ميتا يمشي على قدمين. لذا كانت رائعته الاولى رواية «الارواح الميتة» عندما تنهي قراءتها تتلهف لاول هبة هواء وكأنك خرجت من قبر عميق. ان «جوجول» الذي يقول: «ان الارواح الميتة هي انا والناس كلهم» لا يستحق ان يكون مفكرا لامة من الاحياء! لانه لم يبث القوة والعنفوان والذكاء في امته ولم ينتج حركة للامام، بل ان «بوشكين» اقرب لصفة مفكر الامة منه لانه كان منتجا للفكر الذي يتدفق مع تيار حياة الحي في مجتمعه، بل انه بالغ في ذلك كثيرا، وخسر حياته في مبارزة غبية بالسيف انهت حياة اعظم من كتب بالروسية! ولذا فان لقب مفكر الامة لقب يفيض فوقه، لان اهم صفات مفكر الامة هو الذي ينجح في رفع ذكائها لتتخلص من سفاهاتها. واعطي اللقب مطمئنا قانعا الى «ليو تولستوي» الذي اعطى مثلا شهيرا نادرا في تحرير العقلية الروسية ازاء عبودية الاقطاع ورفع من قيمتها الذوقية في قصصه التي كانت تحفا من عصارة العبقرية الانسانية المثالية.

وما زلت قارئا معجبا جدا بالكاتب الانجليزي «سومرست موم» وتأخذني اجواؤه الوصفية في ارخبيلات المحيط الهادي حيث اقام والف زمنا (قيل فيما بعد بانه تجسس لصالح الحكومة البريطانية) واستغرق في وصفه الذكي والممتع لخلجات النفس البشرية، واحب وضوح وتنوع شخصياته. على اني لا اصنفه مفكرا للامة البريطانية لانه كان شخصية ساخرة منسحبة الى داخل اجوائها النفسية. ولانه من المعتقدين والمطبقين للعقيدة الابيقورية، هذا المذهب الذي ينادي باللذة المطلقة، اي ان تغرق في ملذاتك وكأنها رسالتك الوحيدة في العالم. ورغم شعبتيه الجارفة ومبيعات كتبه التي فاقت في وقته اي كاتب معروف.. الا انه اضافة الى تباهيه في اللذة، كان يمقت المرأة ويصر على تمثيلها بأدوار شائنة في قصصه. وهذا تحامل مرضي يسحب عنه صفة مفكر الامة.. واجدني اعطيها واثقا مطمئنا الى «برتراند رسل» الذي اطلع الامة على نقائضها واشعل فيها قبس ذكاء جديد.

..وكان تأثير «نيتشه» هائلا على الامة الالمانية وهو الذي بشر بشعار ان الحرية السامقة هي في القوة والغلبة، ورغم تنشئته المسيحية المتزمتة، الا انه انقلب على المفاهيم المسيحية ناعتا اياها بالضعف والهوان كان مفكرا عصابيا تضربه خبلات ذهنية ومجد عقيدة تفوق القوة، ومنها مواصفات «البشري الامثل»، وما اظن ان بزوع النازية في المانيا وتمجيد هتلر لذاته وهلوساته السيكوباتية في تسيد وصفاء «الارومة الجرمانية» الا من واقع هذا التأثر بفكر نيتشه. الا ان هذا لا يسوغ فيما اراه ان يعتلي «نيتشه» عرش الفكر الالماني، لانه مفكر تجري وراءه شبيبة الاحزاب وليست فيالق الامم. وهذا ينطبق على مواطنه «كارل ماركس» الذي مات مخمورا يحارب الرأسمالية ويبشر بمادية اشتراكية على ان «جوته» كان مفكرا المانيا ضخم العبقرية، وتتصف نفسانيته بجوانب صافية رائقة، وضميرا راقيا متفاعلا مع الموجة الانسانية، ونشاطا فكريا متقدا متعددا ومتطلعا الى الثقافات الاوروبية الاخرى والحضارات الشرقية. وذاب «جوته» عاطفة فاخرج رائعته، ودرة الادب الالماني «آلام فرتر» (يوم قرأتها مترجمة الى الانجليزية من مترجم اجاد نقل الروح والنص تمنيت يومها لو عرفت الالمانية، المانية جوته) ولقد شاعت حكاية فرتر بين شباب وفتية المانيا وتبعهم شباب اوروبا في القرن التاسع عشر وطغى تأثيرها الآسر عليهم حتى ان بعضهم انتحروا وجدا كما فعل «فرتر» بعد يأسه المفجع من حب اشقاه وعذبه. اسس «جوته» تقريبا نظام دولة مع امير بافاري كان شديد الاعجاب والتعلق به. كما ان جوته يتميز باتجاه تأملي، ومسالمة مع عناصر الحياة وتملك لغة مبهجة حتى في حزنها، واسلوبا مزخرفا بالضوء الانساني مع تفكير منهجي واخلاقي في تسيير الشعوب والامم، وهذا ما يجعل «جوته» جديرا بان يكون مفكرا للامة الالمانية.

.. ولم يكن «سارتر» الا مفكرا محبوسا بالهم الوجودي رغم شهرته وكثرة حواريه، وحيث انه كان تابعا في الفكرة الوجودية ولم يكن مؤسسها فقد كبرته صحافة فرنسا والمهتمون بالمد السارتري ثم سكنه هذا الوجد النفسي في استغراقه باسطورته وصار يعتقد ان فكره صار يفيض عن الوعاء الوجودي كما صممه المؤسس، وركب موجة راديكالية تطلبتها الموضة الراديكالية التي كانت تغمر العالم بعيد الحرب الكونية الاخيرية ولكنه لم يكن مفكرا تؤرقه الامة الفرنسية، وقد اقتنع بمن يجادل ان يكون سارتر من رموز الامة الفرنسية مثل «ليليان» ولكنه لم يهيئ فكرا تنويريا او اصلاحيا لامته وقد يكون «ديرنمات» السويسري او «مورافيا» رغم تفسخه الفلسفي اقرب من زميلهما الفرنسي في صفات المفكر الوطني. ان «اندريه ملرو» اقرب بمراحل ليكون مفكر الامة الفرنسية لولا كونه مثقفا رجعيا متزمتا رغم تأهله كعضو في الاكاديمية الفرنسية. كذلك زميلهما الاقل شهرة «فرانسوا مورياك» وكان مفكرا وباحثا باهداف جادة عضو الاكاديمية الفرنسية والحاصل على هذه الجائزة الشرفية العالمية الاولى «نوبل» في العام 1952، ولكن التزامه الفكري للكاثوليكية كاد ان يحوله الى متكرس ديني وضيق افاق انتشار فكره في ولكل مرافق الامة. وكان شارل ديجول زعيما كارزمنيا وصاحب فكر، ولا يتأهل مفكرا لفرنسا اولا واخيرا لغرمه الشوفيني بفرنسا.. وما زال «جان جاك روسو» يطل من نفق الزمن بافكاره ومبادئه على الامة الفرنسية.

.. وقد يخالفني كثيرون في انتخابي لمحمود عباس العقاد كمفكر انموذجي للامة المصرية ويعزز ذلك هالة الاعجاب التي تصاحب عبقريته الموسوعية التي اشعت بمعارفها على كل العالم العربي من غير ان يتلقى دراسة منتظمة تذكر. فقد كان ميزانا شديد الدقة بين القديم والحديث، وفي التأصيل الديني وبطريقته البحثية العميقة وباستدلالاته اللامعة، ودعا الى الانفتاح على الثقافات العالمية ولكن بعد التحصن بالثقافة العربية والمقبولات المصرية. ورعى بتصميم ثابت رؤيته للشكل السياسي والاجتماعي المناسبين لمصر وكان شجاع الضمير شفاف الرأي فصيح العزيمة. بينما كان صديقه طه حسين ينتشر، وتحتفل به اوساط الفكر بطقوس اكبر. غير انه كان دوما صداميا رغم اسلوبه الرائق المنزلق كنسيج من الحرير، فقد هدم ثواب المجتمع المصري في كتابه المشهور عن الادب الجاهلي، ودعا دعوة سافرة الى ربط لا ينفصم لمصر مع اوروبا وبالذات مع فرنسا الذي لم يخف ولعه بها وبمفكريها وكاد ان يتوج «ديكارت» نبراسا للعلوم، وله فصل عجيب من السخرية موجهة لبعض شيوخ الازهر في كتابه «من بعيد» عن رحلة ميتافيزيقية لديكارت على مجنح يعبر فيها جبل قاف وذهب في خياله الساخر بعيدا ولولا قصر باعي امام شامخ فكري مثل طه حسين لقلت انه تعدى السخرية الى الهزء. ولا بد من الاعتراف بان طه حسين غير من جلده كثيرا وانتج مصنفات اسلامية متتابعة مثل «على هامش السيرة» و«الشيخان» و«الوعد الحق» و«مرآة الاسلام» تغلبت فيها روحه القاصة واسلوبه المزخرف المرسل. والدكتور «عبد الرحمن بدوي» فيلسوف عظيم المعرفة ولا اعرف احدا يتجاوزه في سير وتحليل الفلاسفة العمالقة وبالذات فلاسفة المانيا مجيدا للغتهم ومجاورا لعقولهم ولكن غلبت عليه الروح الاكاديمية الجافة وتعب من التواصل مع الدوائر العلمية والاجتماعية لمزاجه الناري فهو بركان مستعد دائما لقذف الحمم، ومن الصعب ان يكون حكيما او معلما لامته فالصبر والتحمل والأناة من اسس مواصفات المفكر. غير ان «زكي نجيب محمود» اشتق طريقا واضحا وجديدا في تثقيف بني امته واتسم اسلوبه بالجمال الادبي وصاغ الفلسفة الصعبة في اشكال انيقة ومفهومة، واللافت انه طالب بيقظة للعقل العربي بدون ان يمارس او حتى يوحي بأعلوية فكرية او ان يرتدي وشاح المعلمين. وساهمت شخصيته المتوارية الخجول في تقريبه لقرائه ولمتابعيه، فمن الصعب الا تتأثر بافكاره ونظرياته بعد قراءة كتبه والحقيقة انه اراد عقلا عربيا متصالحا مع العالم ومتفتحا عليه وهاضما لمبررات تقدم مجتمعاته واستلزم على هذا العقل ان يرتبط قاعديا مع ثوابته الثقافية والحضارية والوجدانية، وميزة «زكي نجيب محمود» الذهبية هي توسطه وتوازنه وبعده عن اي مؤشرات للتعصب ولو لافكاره ذاتها.

.. ويهمنا في هذا التسلسل ان نصل الى المجتمعات الخليجية، ويهمنا امر مفكريها. وقد نقبل القول ان هذه المجتمعات لم تكتمل دوائرها الثقافية وان الجذور التاريخية القريبة تنقصها بحكم تطور هذه المجتمعات الذي بدأ متأخرا قياسا بمجتمعات عربية اخرى، وهي نمت بتسارع مع الانتفاع من بدء الاعمال النفطية الا ان الواقع الان يؤكد بان هذه المجتمعات هي الاكثر احتفاء في الفكر وفي المفكرين ولا يجوز لاحد ان يقلل من هذا الواقع مع وجود الادلة والشواهد. وتحتفل الاوساط السعودية الرسمية والفكرية في مفكر باحث ومفكر موسوعي نادر هو الشيخ «حمد الجاسر» يرحمه الله، وقد ملأ رحابنا الفكرية بثروات من انتاجه الغزير بل كرس نفسه في الآونة الاخيرة للضبط والتحقيق فيما يتصل بمواضيعه التي اهتم بها وكأنه يتجاوز حدود الفرد ليبزغ بذاته مؤسسة فكرية. وهذا الاصرار على تأطير دائم لاعماله في الاوساط السعودية اعطى هذا الانطباع بان الجاسر تجاوز بالنسبة لهم الحب الى الرمز، وهذه اكثر صفات مفكر الامة سموقا مع توافر جمالية كبيرة عند الجاسر والتقاء الآراء عموما حوله، الا ان تواضعه الجم وتواريه الخجول وراء ظله الممتد، واستغراقه في بحوثه وعدم خوضه في الشأن العام وقفت بارادته دون ان يكون المفكر الذي نتحدث حوله، مع ان هذه الصفة ما تم توافقها مثل ما توافقت معه. ويبدو ان البحريني الدكتور «محمد جابر الانصاري» مفكر من الطراز المطلع الثقيل وله رؤى ثقافية واستشرافية رائعة الا انه يتسم بالعموميات، وهو مفكر كان يحلق دائما خارج سماه البحرينية والخليجية منذ كتاباته في المجلات اللبنانية قبل عقود الى نمو الرغبة التأليفية لديه، وهو من عداد المفكرين الذين يملكون هذه الموهبة الخفية التي تعطي رؤيتهم وفلسفتهم بعدا مؤثرا على العقلية العامة وهي هبة يمن الله فيها على بعض عباده المختارين فتعطي هذا القبس من العبقرية التي لا تزوده الكتب ومدرجات المحاضرات. اذن فمعظم مفكرينا ما زالوا مشغولين بتجربة العالم العربي بحواضره ولم يتكون لدينا حتى الان القالب الذي يخرج منه الفكر المؤثر على العقل العام المحلي، مع توافر باقة مفعمة من عقول ذكية وتحليلية وعارفة.. الا انه ما زال ينقصنا في مجتمعاتنا الخليجية هذا الشيء الخاص..

ونحن كأمة عربية كبيرة بحاجة لمفكرين شموليين يعلموننا كيف نربط الحداثة مع الماضي بدون ان نسب تلك، او نتعلق بأهداب الاخرى.. يعلموننا ان التاريخ لا يقف، كما يعلموننا ان التاريخ ايضا لا يُقطع. يعلموننا كيف نتفاعل مع قضايانا الكبرى وكيف نفيدها لا ان يتقاتلوا بأفكارهم حولنا، ويتراجموا بآرائهم فوق رؤوسنا، فنزوغ فتجري عقولنا في منزلق يهوي بنا رغما عنا. ان يعلمونا كيف نتفق في بلداننا اولا ثم على مستوى الوطن العربي بدون الشعارات والهتافات، يعلموننا كيف اتفقت اوروبا الكاثوليكية البروتستانية الارثذوكسية المتعددة الاثنيات واللغات. يعلموننا كيف نرشق هذا النبت الصهيوني الغريب في جسد الامة ولم ترفضه مناعتها الطبيعية بل ظل يكبر ويستشري.. ويعلموننا الا نكون سادة فقط في تراشق التهم حتى صار فنا وتجارة احيت صحفا وناسا وبرامج يقتاتون منها.. (!) كيف؟.. متى؟!

* كاتب سعودي