قنابـل موقوتـة!!

TT

تعودتُ عند السفر، وضع كتاب في حقيبة يدي أقطع به ساعات الرحلة، سواء كانت بالطائرة أو بالقطار أو بالسيارة، وفي كل مرة أحط فيها بقدمي أرض مطار جدة، لا بد أن يقوم موظف الجمرك بتصفّح الكتاب الذي أحمله وتقليبه على وجهيه ثم يقدمه لي في تردد كأنه قنبلة موقوتة يخشى أن تنفجر في أي لحظة بين يديه. لم يشفع لي كوني كاتبة أنتمي إلى الوسط الثقافي، فالقانون يسري على الجميع، لا فرق بين مثقف وفرد عادي ومراهق وطفل في سنواته الأولى!! وهذا الحرص هو الذي دفع وزارة التربية والتعليم في السعودية إلى حذف أبيات من قصائد أبو الطيب المتنبي شاعر العرب، والقيام بقص ولصق وحذف في كتب تراثية أخرى، حرصا على سلامة العقول، وخوفا على فكر الأجيال الجديدة من أن تصيبها آفات قاتلة، من المضامين التي تحتوي عليها بعض الكتب.

هذه الواقعة ذكرتني بواقعة أخرى حدثت في مصر، فقد أراد نجل أحد الأدباء الكبار، الذي كان طوال مسيرته الإبداعية، يثير الكثير من اللغط حول خطه القصصي والروائي داخل المجتمع العربي، والذي كان المنبع لي وللكثير من الأدباء والكتّـاب في بداياتنا، تغيير نهايات بعض قصص وروايات والده حتّـى تتماشى مع طبيعة المجتمع العربي الذي يستهجن بطبيعته النهايات الشاذة، مستغلا الأمر الحتمي بأن الأموات لا يتكلمون وبالتالي لا يحتجون، مما أدى إلى فتح شهية البعض في العبث بأشياء الآخرين، ما دامت الغاية من وجهة نظرهم سامية، هدفها غربلة الأفكار من التلوث الإشعاعي الذي سيؤدي حتما إلى قتل الفضيلة والأخلاق والعبث بالتقاليد والأعراف العربية!! وفي سوريا، في الأسبوع الثقافي الفرنسي، أكد المستشار الثقافي في وزارة الخارجية الفرنسية بأنه لن يقبل عرض لوحات فنية تنتقد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، مما يعني بأن الفنون على مختلف أنواعها، التي كانت في الماضي الوسيلة الأضمن للمرور عبر الحواجز، ليعبّـر الفنان من خلالها عن مواقفه تجاه قضايا أمته، قد أصبحت العراقيل توضع أمامها هي الأخرى توجسا من تحـرّك الجمرات الساكنة، وتحسبا من إشعال الحماس في أعماق الفرد العربي، تجاه ما يجري من مآس على أرضه العربية!! وجميعنا يتذكر ما حدث في رمضان الفائت أثناء عرض مسلسل «فارس بلا جواد» الذي اعترضت على بثه الحكومة الإسرائيلية وطالبت بوقف عرضه بحجة إساءته لتاريخ اليهود، مما يؤكد على أن السياسة تتداخل مع الفن، بدليل ارتفاع حواجز المنع، واتساع رقعة الرقابة الجبرية على كافة أنواع الفنون!!

كيف يمكن أن تنشأ الأجيال العربية على النقاش واحترام حرية الكلمة، إذا كانت الوقائع تشوه، والأفكار تُـصادر، والآراء تمنع من التداول، وهناك من يناصبها العداء؟! كيف يمكن أن تخرج إلى الحياة العملية أجيال واعية وهي تتربى على نغمة الوعيد والتهديد والعيب والممنوع؟! كيف نأمل خيرا في المجتمعات الجديدة وهي تُـضرب على مؤخرتها، وتُـرفع العصا في وجهها، إذا أرادت إعلان الحقائق أو التنقيب عن ماضيها أو إبراز معالم حاضرها؟! كيف يمكن الوثوق في أجيال لا تعرف ما معنى موقف، وما معنى رأي، وما معنى مواجهة!!

إذا أردت أن تعرف تاريخ أمة، فعليك أن تطّـلع على تراثها، وتشاهد فنونها، وتنقّـب عن آثارها، فقيمة المجتمعات فيما تقدمه من إنجازات على مدار العصور، لكن للأسف لقد أصبحت اليوم المجتمعات العربية تعيش بوجه مبتور، جهة مطلية بالمساحيق الرخيصة، والجهة الأخرى مشوهة لا يمكن تغطية عيوبها، مجتمعات تحصر فنونها في الإثارة الرخيصة فقط!! مجتمعات يتفشى فيها الفساد السياسي والمالي والإداري، مجتمعات نصف وجهها عار، ونصفه الآخر يغطيه وشاح أسود!! بجانب الازدواجية العجيبة المغروزة في أعماقها، ينادي مسؤولوها أفراد المجتمع بوجوب التمسك بالصدق والفضيلة، وفي الأروقة والأزقة تباع الذمم وتستباح الأخلاق وتهدر المبادئ!! مجتمعات تتحدث عن احترام حقوق الإنسان وفي الخفاء تتم مصادرة الأفكار!! كيف يحيا الأفراد في هذا الجو الموبوء؟! بالتأكيد مع مرور الوقت ستشب أجيال تناصب العداء لكل جديد، نتيجة الانغلاق الفكري، والخيبة الاقتصادية، والازدواجية الاجتماعية!!

هل تاريخنا استحوذت عليه النخبة كما يرى البعض؟! من هي النخبة التي سيطرت على تاريخنا؟! هل النخبة هي الحكومات العربية؟! أم النخبة هي مجموعة المسؤولين الذين لا يأبهون بمطالب شعوبهم؟! أم أن النخبة تعني مجموعة الأفراد المحسوبين على التيار الديني المتطرف، الذين يسعون دوما إلى تحريف تعاليم الدين الإسلامي بما يخدم توجهاتهم؟! أم أن النخبة تعني الطبقة المثقفة، التي دورها الأساسي تنوير أفراد المجتمع، وتطويره نحو الأفضل، متجاهلين أدوارهم الرئيسية، مغمدين أقلامهم في جرابها، محورين لتاريخهم بما يتناسب مع مطالب سلاطين هذا الزمان؟! أم أن المثقفين مظلومون، مغلوب على أمرهم، نتيجة ارتفاع موجة العنف والتهديد، واضطرارهم إلى التجديف بعيدا لكي يأمنوا سلامة أرواحهم؟!

لا بد من المواجهة، فكم من علماء ومفكرين وأدباء وفنانين قدموا حياتهم ثمنا لمواقفهم، وإلا فإن الأمم ستبقى مكانك سر!! وجميعنا يعلم بأن هناك من سبق زمانه وحورب من قبل أفراد مجتمعه، بل إن الصدام مع طبقات المجتمع في كثير من الأحيان أمر ملزم، وهو أشد وقعا من الصدام مع السلطة، لأن السلطة ينتهي أمرها بفرض العقوبة، لكن المجتمع العربي ذاكرته قوية إذا كان الأمر يختص بعاداته وتقاليده!! فعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على نشر الكاتب محمد شكري لروايته «الخبز الحافي» وإصداره بعدها العديد من الكتب، إلا أن الصدام الذي وقع بينه وبين المجتمع العربي حول سيرته الذاتية ما زال ساريا إلى اليوم، وهذا لا ينطبق فقط على محمد شكري، بل على كل مفكر وأديب وكاتب خرج عن الخط المألوف للعرف العربي!!

إننا مجتمعات تكره أن يزيح أحد النقاب عن وجهها في حضور الغرباء بحجة أنها من بيئة محافظة، والحقيقة أننا مجتمعات لا تحب أن يواجهها أحد بعيوبها أو يبين لها مساوئها، أو يشير إلى الندب الموجودة على جسدها، لذا فهي تؤثر دوما أن تهدر الوقت في الضحك على مواقف مفتعلة لفيلم كوميدي رخيص على أن تتفرج على نفسها من خلال فيلم يجعلها تبكي ندما على مآسي مجتمعها ويذكرها بفداحة مصابها وعجزها في تغيير واقعها!!