الثقافة المسيسة

TT

اكثر من طبيعي ان يعقد اول مؤتمر ثقافي عربي شامل في القاهرة بعد سقوط بغداد، فالثقل المعرفي لا يزال هناك رغم كل ما قيل عن هوامش تتقدم لاحتلال دور المركز، والمسألة ليست في أين يعقد اللقاء وكيف، بل ماذا يمكن ان ينتج عنه، وهل عادت ريمة المثقفة لعادتها القديمة في النضال بالبيانات؟

اوشكت ان اظن ذلك حين اقترح الزميل صلاح عيسى اصدار بيان ثقافي ختامي تحت اسم «اعلان القاهرة» وبذلك لا يكون ـ حد احسن من حد ـ فالسياسيون اصدروا اعلان دمشق الذي لم ينفذوا منه حرفا، ونحن نصدر بيان القاهرة وتنتهي المباراة بالتعادل ـ ون تو ون ـ على حساب الشعوب المبتلاة بسياسييها ومثقفيها.

ومن حسن الحظ ان تلك الافكار السوداء التي أثارتها بعض المناقشات لم تطل فهناك شجاعة ظاهرة في النقد، ورغبة دفينة ومعلن في عمل شيء ما قبل ان يغرق المركب، هذا ان لم يكن قد غرق ونحن نؤدي على سطحه الوحيد الباقي، رقصتنا الاخيرة.

لقد كانت نبرة غير مألوفة ان يعلن الوزير فاروق حسني والامين العام للمجلس الاعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور عن عدم وجود قيود وحدود وخطوط حمراء وزرقاء فالحرية مظلة سقف الجميع وكل شيء يمكن ان يقال ويناقش، ولأول مرة في تاريخ المؤتمرات الثقافية العربية الشاملة ـ ربما ـ تكون لهجة المضيفين الرسميين اكثر شجاعة ودعوة للنقد من بعض الضيوف، وهذا ما اطلق عنتريات اضافية.

والبعض الاخر من الضيوف لم يقصر طبعا فقد حضرت الاغلبية وهي ممتلئة غيظا وحماسا ورغبة في عمل شيء ما لوقف التدهور العربي الى الحضيض الاخير لذا كان من الطبيعي ان تسيطر فكرة ربط الاصلاح الثقافي بالاصلاح السياسي، وسابقا كان، يتم فصل المسارات والمسافات خوفا ويأسا فالسلطات الثقافية والانظمة العربية قبل سقوط بغداد شجعت على ذلك الفصل كي يتلهى المثقفون بأنفسهم ومشاكلهم وشتم بعضهم البعض ويتركوا مسألة الاصلاح السياسي التي ستضر بقوى كثيرة مهيمنة يهمها دوام الحال على ما هو عليه، مع ان دوام الحال من المحال، ولو دامت لغيرهم ما وصلت اليهم.

ان تسييس العمل الثقافي لصالح السياسي الذي يعرف عمله هو افضل من «التتييس» ومن السياسات الغبية والقاهرة في شراء الذمم والضمائر والمنابر التي اوصلت الثقافة العربية والسياسة العربية بعد نصف قرن من ممارستها بكثافة الى طريق مسدود.

ويا ايها المثقف العربي طريقك «مسدود، مسدود، مسدود» اكثر من طريق عاشق قارئة الفنجان ان لم تبادر وتنخرط في العمل السياسي مداورة ومباشرة وعلى جنوبهم، فالمجتمعات لا تتحرك بالكلام وحده، ولا بد لها من منظمات واحزاب وجمعيات وهيئات تحرك العمل العام وتشحذ الوعي، وتراقب السلطات السياسية وتهيئ برامج عمل واضحة ودقيقة، فلا يكفي ان نقول الحل بالديمقراطية والتعددية والحفاظ على حقوق الانسان لان ذلك دون تنظيمات فاعلة ودون انخراط في العمل السياسي كلام في كلام، وقد شبعت امتنا وشبعنا من الكلام، وجاء دور الفعل، ودقت ساعة العمل العربي وساعة العمل القطري ايضا، فالنظرة القطرية ذات الافق القومي والانساني لا تضر انما الذي يضر هو الذي يحولها الى شوفينية وعصبية مقيتة تسيء الى غيره دون ان تنفعه.

ان المكان أو لنقل القطاع الوحيد الذي تتحقق فيه الوحدة العربية هو القطاع الثقافي الذي ظل رغم الحزازات والانقسامات وسيطرة المصالح الضيقة وحدوي التوجه وقومي المضمون والمحتوى وهذا رصيد كبير للأمة العربية التي تستطيع النهوض بجهود ابنائها دون وصايات اجنبية ودولية ودون استبداد سياسي محلي خدم على الدوام ليحمي نفسه من مصالح المتسلط الاجنبي الذي الزمه ـ وهو في هذه لا يحتاج الى الزام ـ بقمع الحريات والمثقفين والاعلام كي لا تصل التحقيقات الى ملفات الرشاوى والسمسرات والصفقات ذات الروائح غير المستحبة.

والآن وبعد العراق يدرك السياسي ان افضال حماية لحكمه هي الحماية الشعبية ويدرك المثقف ان عمله قد يظل مسلولا دون انخراط فاعل في العمل السياسي، وفي الافق مصالحات وطنية في اكثر من مكان بين السياسيين والمثقفين، ستسهم هكذا مؤتمرات غاضبة في تسريعها فكل تأخير لها لعب في الوقت الضائع وغباء استراتيجي من الطرفين اللذين يفترض ان يمسكا الدفة معا وسط هذه الرياح الهوجاء والعواصف.