براغ تجاوزت «ربيعها» بثورتها المخملية

TT

فتحت «خطة مارشال» الامريكية المخصصة لاعادة اعمار اوروبا بعد الحرب الثانية، الباب على مصراعيه لنشوء الكيان الاوروبي كما نراه اليوم، ورسخت مفاهيم السلم والرخاء الاقتصادي محل الحرب والفقر. وقد توالت قفزات هذا الاتحاد (الاوروبي) ونجاحاته خلال نصف قرن، مما حفز الدول المجاورة على تقفي اثره على امل الانضمام له؟ وكانت جمهورية التشيك مثالا ساطعا لتحقيق هذا الهدف. وهناك من يضيف بأنه قد اختزل في الضمير الوطني، بعد ان تم قمعه عام 1968 بالدبابات السوفياتية وهو ما يسمى «ربيع براغ»، الذي اعقبته ردة فعل طبعت الناس جميعا، واطلق عليها حالة «الصمت الرهيب».

ولتثبيت السلم ونشر ثقافة التسامح، كانت تشيكوسلوفاكيا الدولة الوحيدة تقريبا، عام 1989، التي انهت حكما شيوعيا واقامت حكما ديمقراطيا رأسماليا مرتبطا بخصوم الامس (الغرب)، من خلال «ثورة مخملية» لم ترق فيها قطرة دم واحدة، وحتى حين اعلن الاشقاء (السلوفاك) عن رغبتهم في الانفصال، تمت العملية بشكل سلمي لافت ومثير لاعجاب الجميع في الآن نفسه.

انضمت جمهورية التشيك الى حلف الناتو عام 1998 تمهيدا لانضمامها للاتحاد الاوروبي المقرر في2004/5/1، الذي يعتبره الناس حتميا، نظرا لأن براغ ـ وهي مدينة ذات رونق انثوي اخاذ ـ كانت العاصمة غير الرسمية لاوروبا في زمن الامبراطور تشارلز الرابع في القرن الرابع عشر، كما انهم (التشيك) ينظرون بعين الرضى الى ما آلت اليه الاحوال الاقتصادية في اليونان والبرتغال وفنلندا وايرلندا، بعد انضمامها الى الاتحاد الاوروبي، وما صاحب ذلك من مساعدات سخية، وفي هذا الاطار قامت الحكومة باصلاحات لنظامها الضريبي وتم تحرير الاسعار والتجارة الخارجية. تزامن ذلك مع بيع كثير من حصص الحكومة في الشركات الكبرى. ان سلسلة الاجراءات التي اعتبرت جريئة في ذلك الحين، حققت في الواقع نتائج ايجابية في الناتج المحلي الاجمالي ومعدلات العجز في ميزانية الدولة الذي كان عام 2002 في حدود 5.5%.

داهمتني فكرة المقال حين وقفت امام مسرح «الفانوس» (بالتشيكية Lucerna)، مصحوبة بأطياف فاكلاف هافل الكثيفة؟! وحكاية هذا المبنى وفضاءاته خبرها هافل ووالده من قبل، بعد ان اقصي منه عنوة. بنى المسرح جد هافل في مطلع القرن، والاسرة تنتمي الى الطبقة البرجوازية التي زاد عددها اثر الطفرة الاقتصادية التي شهدتها براغ اواخر القرن الثامن عشر، واعتبرت في ذلك الوقت اكثر حواضر اوروبا نموا وازدهارا. تم تأميم الاملاك الخاصة بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة، وكان مسرح «الفانوس» احدها، زد على ذلك ترحيل الاسر البرجوازية كافة الى خارج براغ للحد من نفوذها، واسرة هافل لقيت المصير نفسه، مما وضع الطفل فاكلاف وشقيقه في طريق وعر وشاق كانت محطاته التعليمية مشوهة.

هذا الفتى الكاظم لغيظه سيتحصن بايمانه المطلق بعدم تلاقي الشيوعية مع توجهات بلاده، ليقود في ديسمبر 1989ما اطلق عليه «الثورة المخملية» Velvet Revolurion، تمخض عنها انتخاب البرلمان له رئيسا لتشيكوسلوفاكيا. كما قام البرلمان المنتخب حديثا، باعادة انتخابه كرئيس في يوليو 1990، ومرة اخرى في 2 يناير 1993 كأول رئيس لجمهورية التشيك بعد انفصالها، واستمر حتى فبراير الماضي الذي كان نهاية عهده بالرئاسة والسياسة، ولم يأسف عليها كما كشف في محاضرته التي القاها امام طلبة الدراسات العليا بجامعة نيويورك يوم 2002/9/19. ويعد هافل اهم واشهر المنشقين الثلاثة عن العقيدة الشيوعية (يلتسين الروسي وفاليسا البولندي) نظرا لقدومه للسياسة من حقل الفن والادب وهو ما يروق للناس، وليس العكس كالقادة الذين يجسدون النموذج المثالي لشخصية البطريرك بشموليتها لكل اوجه الحياة. وكتبه لاقت رواجا كبيرا وترجمت الى اكثر من لغة، ومنها: «حفلة الحديقة» 1963، «المذكرة» 1965، «الصعوبة المتزايدة للتركيز» 1968، «المتآمرون» 1971، «اوبرا الشحاذين» 1972، واخرى، كان اهمها على الاطلاق كتاب جمع فيه رسائله من السجن لزوجته الراحلة اولغا عام 1989، التي وصفها «امله الباقي وضمانة الحياة»، وقد جعلت هذه الرسائل زوجته اولغا قديسة في نظر الشعب التشيكي، الذي عاد وصدم بالرئيس هافل بعد اقدامه على الزواج من «دقمار» التي تلوكها الالسن منذ ظهورها في فيلم سينمائي محلي بشكل سافر، هذا الزواج الذي تم بعد اقل من عام على وفاة زوجته اولغا؟

ان التسامح امر في غاية الاهمية لنهوض المجتمعات ورقيه، وثقافة التسامح التي وضعتها المجتمعات المتقدمة عامة واوروبا خاصة في اعلى سلم اولوياتها، لم تفعل ذلك عبثا، بل ادراكا للنفع الذي سوف يتلقاه وينعم به المجتمع نفسه، وقد كان الرئيس هافل رمزا للمجتمع التشيكي في تجسيد هذه الثقافة (التسامح) مؤكدا عبر مشواره الحافل، نجاحها المنقطع النظير.

وليتنا في المنطقة العربية نعيد النظر في مشهدنا الثقافي برمته، علنا نجد مكانا ولو قصيا لنغرس بذرة التسامح تلك.

* كاتب سعودي