كيف تشن الحروب بناء على (كذبة)؟

TT

البشر، أو اكثرهم (ضحايا): الأوبئة، والجريمة، والفقر، والجهل ، والتعصب، والعنصرية، والطغيان.. هذا صحيح.. وصحيح ايضا: أن اكثر البشر (ضحايا الاكاذيب). بيد أن هذه قضية (منسية)، لم يكثف عليها الضوء والوعي كما كثف على الاوبئة، والجريمة.. و... و.. في حين ان (كارثة الكذب) لا تقل خطورة وبلاء وضررا عن تلك البلايا التي اشقت البشرية، وهدت عافيتها هدا منكرا ودائما واليما.

والاكاذيب التي افترست الوعي الانساني واضلته وحجبت عنه (الحقيقة): كثيرة متنوعة، لكن المقصود في هذا المقال: (الاكاذيب السياسية) وحدها بحسبانها (وباء عقليا واخلاقيا ومدنيا) ساحقا ماحقا يجب ان ينعقد اجماع عقلاء البشر، وذوي الضمائر الصاحية منهم على مقاومته، وحماية الوعي الانساني من عاهاته .. وليس افتئاتا على الحق، ولا مبالغة في الوصف والتصوير والتكييف: اذا خرج علينا انسان ـ اليوم أو في الغد ـ بكتاب جعل عنوانه: (نحن نعيش عصر الاكاذيب). وكان يقصد بعنوانه هذا: القرنين: العشرين والحادي والعشرين، أو بدايات الاخير، ذلك ان بين يدي هذا المؤلف الشجاع والامين والوفي لاسرته الانسانية: من الحقائق والوثائق ما يصدق عنوان كتابه: بالمضامين العلمية والعقلية والواقعية والتاريخية. حروب تأسست على الأكاذيب الضخمة.

وازمة الاكاذيب السياسية المعنيّة ـ ها هنا ـ ليست تلك التي يمارسها الساسة في الحملات الانتخابية، ولا في كيد بعضهم لبعض الى حد تبادل (الاغتيال السياسي والمعنوي). ولا تلك التي يتغذى بها ـ ويغذي بها الناس ـ: اعلام مجرد من الضمير والنزاهة وشرف الكلمة. نعم . هذه كلها اكاذيب تقبّح حضارة الإنسان ، وتُظلم مدنيته المضاءة بمصابيح الكهرباء.. إنما المعنيّ: الاكاذيب التي انبنت عليها حروب، بما في الحروب من دم وقتل وتشويه وتدمير.. وليست تتسع المساحة إلا لضرب مثلين أو تقديم نموذجين من هذه الاكاذيب الدامية!:

أولا: (كذبة أسلحة الدمار الشامل) التي اتخذت منها الولايات المتحدة وبريطانيا أساساً أو سببا لشن الحرب على العراق (وفرق بين نظام طغياني لن يبكي على ذهابه احد وبين تسويغ الحرب بكذبة).. لقد تتابعت القرائن، واستفاضت الشهادات والاعترافات التي تبرهن على ان شن الحرب اعتمد على كذبة، ومن هذه القرائن: «أن وكالة الاستخبارات الأمريكية رضخت لضغوط الإدارة في البيت الأبيض من اجل تضخيم مخاطر برامج الاسلحة العراقية. فمنذ اواسط عام 2001 أصبح هناك اندفاع وتسرع في إصدار أحكام في شأن أسلحة لدى العراق».. المؤرخ الأمريكي (جون براد وس).. «إن معظم معلومات الاستخبارات قبل الحرب في شأن أسلحة الدمار الشامل كانت مهلهلة ومتهافتة، لكن أهداف صانعي القرار كانت واضحة».. (ميل غودمان). الأستاذ في كلية الحرب القومية التابعة لوزارة الدفاع ومدير مشروع اصلاح الاستخبارات في معهد السياسة الدولية في واشنطن... «ان رئاسة الوزارة طلبت من أجهزة الاستخبارات البريطانية جعل الملف العراقي (أكثر اثارة) للحصول على دعم شعبي اكبر للدخول في حرب ضد العراق».. (اندرو جيليجان)، خبير الدفاع البريطاني... «ان السلطات الأمريكية قدمت أدلة زائفة بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. لقد كان الأمر خدعة كبيرة جدا. أما الشاحنات التي قيل أنها مخازن متحركة لاسلحة الدمار، لم تكن سوى عربات اطفاء».. (بيتر فرانك)، عضو فريق التفتيش الدولي الذي قاده بليكس... «إن المعلومات الاستخباراتية التي استخدمتها واشنطن ولندن لتبرير الحرب على العراق وتزويرها لم تكن مؤكدة ولا موثقة بما فيها المعلومات التي قدمت لمفتشي الاسلحة الدوليين في العراق . ولقد مارست واشنطن ضغوطا على المفتشين الدوليين من اجل كتابة تقارير تساعدها في كسب الاصوات داخل مجلس الأمن وتمرير قرار الحرب».. (هانز بليكس)، رئيس فريق المفتشين الدوليين للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق... «إن في الإدارة من تلاعب بمعلومات أجهزة المخابرات حول العراق وتزويرها من اجل تحقيق هدف سياسي. وفيما يخص حصول العراق على اليورانيوم من دولة افريقية ، فإن كل الادلة الأمريكية في هذا الشأن كانت مزورة».. (جريج فيليمان) مدير الادارة المسؤولة عن أسلحة الدمار الشامل في وزارة الخارجية الأمريكية حتى سبتمبر 2002.. «اني اعرف ضباطا عاملين في وكالة الاستخبارات يحمّلون البنتاجون مسؤولية تلفيق وتزييف المعلومات بشأن الاسلحة في العراق. وان طرفا في المعارضة العراقية كان اكبر مصدر لهذه المعلومات المزيفة».. (فيني كانيسترار رئيس شعبة مكافحة الإرهاب في سي أي أي.. (استقال).

«ان المعلومات التي زعمت الإدارة انها حصلت عليها فيما يتعلق ببرنامج التسلح العراقي لم تكن صحيحة ولا مقنعة».. السناتور (جاي روكفلر) عضو لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ... «ان مسرحية رئاسة الوزراء عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة كانت وراء مقتل العشرات من الجنود البريطانيين في العراق. ولقد كتبت جمعيتنا مذكرة معززة بوثائق صادرة عن وزارتي الخارجية والدفاع تؤكد جميعها أن الحكومة كذبت على الرأي العام».. (سوان وني) ممثل الجمعية الوطنية البريطانية للمحاربين في الخليج واسرهم... «لقد خُدع مجلس الوزراء خدعة كبيرة حين قدم له مبررات للحرب ثبت تماما انها غير صحيحة».. (كلير شورت) وزيرة التنمية الدولية المستقيلة من حكومة توني بلير... «ان المعلومات الاستخباراتية الأمريكية حول وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق كانت ناقصة إلى حد محير، وانه لم يتم العثور على أي أسلحة كيميائية أو بيولوجية لا في المستودعات ولا في صفوف الوحدات العراقية، والواقع اننا لم نكن على صواب في هذه المسألة».. (جون ابي زيد) المسؤول المقبل للقيادة المركزية الأمريكية.. وربما يقال: قد توجد أسلحة دمار شامل في العراق بعد ذلك!! والرد: سؤال قانوني واخلاقي وعقلاني: وهل تشن الحرب ويموت الناس ثم يُبحث من بعد عن الدليل والسبب؟، ويكون الدافع للبحث: الخروج من ورطة الكذبة، وهو بحث تحيط به تهم التلفيق؟!

ثانيا: لئن كان ما سبق : اكاذيب راهنة، فإن ثمة (سوابق تاريخية) لهذه الأكاذيب.. لقد دخلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الأولى بناء على (كذبة كبرى)، إذ حشدت لهذه الحرب 4 ملايين و734 ألفا و991 رجلا قتل منهم 115 ألفا و516 رجلا واصيب بجروح وعاهات دائمة 200 ألف ورجلان. وكان مسوغ الحرب وسببها دعوى: أن غواصة المانية اغرقت سفينة أمريكية اسمها (ساسكس) في القناة الانجليزية .. يقول النائب البريطاني المعاصر لهذه الكذبة ( فرانسيس نلسون ) ـ في كتابه: (كيف يصنع الدبلوماسيون الحرب) ـ «وفي أمريكا. كان الرئيس وودرو ويلسون يبحث بالليل والنهار عن ذريعة ما تبرر دخول بلاده الحرب، فوجدها أخيرا في كذبة اغراق السفينة (ساسكس) في القناة الانجليزية: وهلاك كل من عليها من الرعايا الأمريكيين، عندئذ أسرع ويلسون بحمل هذه الكذبة إلى الكونجرس ليطالبه باعلان الحرب على ألمانيا. لكن تبين بعد ذلك: أن ساسكس لم تغرق، وان أحدا من الأمريكيين لم يمت.. فهل هذا جنون، أو سقوط اخلاقي، أو متاجرة بارواح البشر، أو محض ولع بالعنف والدم؟ ثم هل هناك أمل في محاكمة الكذابين في الادارة، وقطع أرزاق الكذابين في المعارضة العراقية، والكذابين العرب بوجه عام؟ أم أن العالم ـ بما فيه الشعب الأميركي ـ سيظل ضحية للأكاذيب العملاقة؟