المغرب العابر في التوتر

TT

حين وصلتني الدعوة للمشاركة في الأمسيات الشعرية لمهرجان الشعر المتوسطي في الرباط، قلت في نفسي إن المغرب قد تعافى من أحداث 16 مايو الموجعة، وأنه تجاوز تفجيرات الدار البيضاء بسرعة يدلل عليها تواصل النشاطات الثقافية، بل وكثافتها في أكثر من مدينة مغربية.

ولكن ما إن نزلت مطار الدار البيضاء، حتى عرفت أنني أزور مغربا جديدا غير الذي عرفته قبل عشر سنوات. الهاجس الأمني في المطار كان فوق الوصف، إلى درجة أنه يتعذر، على من ينتظر قدومك، الدخول حتى إلى بهو المطار.

وتلحظ فى شوارع الرباط وجودا لرجال الشرطة، يمتد على كافة ساعات اليوم. أما بعض الفنادق، فقد سارعت الى إقامة حاجز إلكتروني، في محاولة لتأمين أمنها.

لقد مضى إلى حد الآن أكثر من شهر ونصف الشهر، إلا أن المغرب برمته مازال يعيش على وقع الصدمة وداخل طقس من الخوف المعقد.

ومن يعرف حميمية المغربيين وهدوءهم وتواضعهم، يستطيع أن يدرك سبب استئثار لحظة الصدمة بكل هذه المدة الطويلة والقصيرة، سيما وأن التفجيرات حصلت في زمن سياسي جديد يعيشه المغرب، ويتميز بالانفتاح وبالتخفيف من ثقل البروتوكولات الملكية، وكلها مؤشرات جعلت الملاحظين السياسيين يؤرخون لزمن سياسي مغربي جديد، يمسك به ملك شاب يتمتع بعقلية تساعد على تقريب المسافة ما بين القصر وما بين أولئك الذين يسكنون دور الصفيح، والذين يقدر عددهم بـ700 ألف مغربي.

ولا تستطيع أن تغض الطرف أيضا عن ظاهرة سلوكية أصبحت لافتة، وهي أن المجتمع المغربي، في جزء مهم منه، قد أضحى متوترا وقابلا للاشتعال وللغضب بسرعة، وهو ما يتعارض مع صورة المغربي الهادئ والمطمئن. وأعتقد أن هذا التغيير في السلوك الاجتماعي المغربي، يحمل نقاط استفهام كثيرة، ويعج بالملفات الضروري فتحها، ومعالجتها طبق ما تستطيعه النخب السياسية من قدرة على إشباع توقعات مجتمع يعيش أكثر من خمسة ملايين ونصف منه تحت خط الفقر، ويسكن مليون وربع المليون مغربي سكنا غير لائق، منها 540 ألف أسرة مغربية تقطن في الأحياء غير القانونية والناقصة التجهيز.

ولكن هل الفاجعة التي ألمت بالمغرب كانت مفاجئة مائة في المائة؟ هل هي فاجعة تخلو من أي سياق ولا بذور تبرر نموها؟ أم أن لب المفاجأة يكمن في استفاقة المغرب على حقائق لم يكترث بها زمن تكونها وتشكلها تحت الرماد ؟ ثم والسؤال الأكثر آنية هو إلى أي حد يتسم رد الفعل السياسي بعد التفجيرات بالحكمة وبالعقل وبالروية؟

إن الحديث المسيطر على نقاشات المغربيين، والذي يتصدر أول مواضيع أي دردشة فضولية هو مسألة التصويت لصالح قانون الإرهاب، بعد يوم واحد من تفجيرات الدار البيضاء، مع العلم أنه قبل الأحداث لم يلق اجماعا حوله. ومن خلال الاحتكاك ببعض المغربيين، لاحظت تأسفا على ما لحق بالحريات في المغرب من تراجع، يتمثل أساسا في التنصت على الهواتف، والسماح بالمداهمات، والطلب من الموظفين في البنوك نزع الحجاب بالنسبة إلى السيدات، وعدم إطلاق اللحي في ما يخص الرجال. ومن الطرائف التي تدور هذه الأيام، تسابق أصحاب اللحى في مراكش على الحلاقين للتخلص من علامة أصبحت مصدر تهديد. كما لجأ عدد من السيدات المحجبات إلى تغيير أحجبتهن السوداء ووضع حجاب ملون وخفيف.

وتندرج جملة هذه التغييرات السلوكية في خانة محاولات الدفاع عن النفس، والدفاع عن أحقية الوجود داخل المجتمع المغربي، بأقل ما يمكن من التهم. والاجماع الحاصل اليوم في المغرب، يقول ان الاسلاميين المغربيين يعيشون حالة عزلة في المجتمع المغربي تتمظهر في توجيه أصابع الإتهام ضدهم، وشن حملة اعتقالات واسعة، وحملات ضد خطباء الجمعة، وحملات أخرى تمشيطية، واتهامات تستهدف المؤطرين للشأن الديني، وأيضا امتناع القنوات الإعلامية عن التعامل معهم.

ولقد أدت كل هذه الضغوطات إلى تعميق عزلة الاسلاميين في المغرب، ويبدو أن هذه العزلة تتجاوز الحالة إلى خيار مستقبلي، من ذلك أنه ما يتردد اليوم في المغرب هو أن الحركات الاسلامية لن تشارك في الانتخابات البرلمانية القادمة، في حين أنهم في الانتخابات السابقة حققوا اكتساحا رغم أن مشاركتهم لم تشمل أكثر من %60 من المناطق الانتخابية.

ولعل المؤشر الثاني الذي يدعم فكرة أن العزلة عند الاسلاميين المغربيين أضحت خيارا مستقبليا، أو على الأقل هكذا توحي التحركات، هو أنه حتى الاسلاميين صوتوا على قانون الارهاب.

في الحقيقة، ليس صعبا تفهم موقف النخب السياسية في المغرب، واستيعاب إفراط فعلها السياسي في تجفيف المنابع، وذلك لعدة اعتبارات، أولها أن المغرب غير قادر على مجابهة انعكاسات مثل هذه الأحداث إذا ما تكررت. فالبلد يعاني من الفقر، وتعتبر السياحة ثاني أهم موارده وأي مساس بالأجانب، تهديد لاقتصاد البلاد ولصورة المغرب في العالم وخاصة أمام الولايات المتحدة الأميركية.

ولكن هل تؤشر هذه الحقائق البليغة الى تراجع في الحريات الفردية؟

يقال، إن أهل مكة أدرى بشعابها، وأكيد أن الجهاز السياسي في المغرب أكثر دراية من الكثيرين بشعاب المغرب، ولكن هذا لا يمنع من تقديم بعض الملاحظات التي لا تضر وقد تنفع. إن مقاومة الارهاب تحتاج إلى سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وليس إلى أي قانون، إذ أن العنف كظاهرة تحمل تبريراتها الداخلية والخارجية والبعيدة المدى والقريبة المدى أيضا، لذلك فإن إحداث قانون يبيح التراجع غير المعلن عن الحريات، يوحي بأن التعاطي الرسمي مع ما حدث، يتصف بالتوتر ويتناقض مع تلك الوسطية التي يعرف بها وبنى سياساته عليها منذ الاستقلال.

إن المطلوب من المغرب اليوم، هو عدم خلق أعداء مجانيين في داخل المجتمع، وأن تسعى النخب السياسية إلى معالجة الفقر والبطالة وظواهر الرشاوى وبعض مظاهر الفساد الضارة، وخاصة الحرص على التوفيق بين ضغوطات الدولة الخارجية وبين خصوصيات المجتمع المغربي الثقافية والمجتمعية، إذ أنه لا يستطيع العيش بعيدا عن الأمن وعن التلاؤم الاجتماعي.

نقطة أخرى أظنها أساسية، وهي أن المغرب أخطأ نسبيا في أساليب تعاطيه مع الشأن الديني طيلة سنوات طويلة، وقد حان الوقت لتصحيح ذلك، ومنح علماء الدين ومفكريه الفرصة لتسيير الشؤون الدينية فقط، إذ لا يعقل أن يكون %73 من الخطباء يفتقدون إلى مؤهل علمي يسمح لهم بالإفتاء، وأن يكون %12 من رؤساء الجماعات أميين. إن الذهاب إلى الأقصى في إبعاد الأميين الدينيين الذين يستغلون بطالة الشباب وفقرهم ويأسهم لغسل أدمغتهم بقيم خاطئة، هو المجال الذي يستحق كل المبالغات السياسية التي قد تحدث. لذلك فإن عدم خلط الأوراق وعدم الاستهانة بحساسية اللحظة الراهنة وخطورتها وحدهما، سيعيدان للمغرب أمنه، وسيجعلان من وعود الزمن السياسي المغربي الجديد، وعودا حقيقية تشبع توقعات المجتمع المغربي الذي يتوق كغيره من المجتمعات العربية، إلى الحريات وإلى الديمقراطية وإلى إفراغ السجون إلا من المجرمين الذين يصف القانون جرائمهم ويحددها. فالمغرب كما قال الراحل والسياسي المحنك الملك الحسن الثاني، لا يمكن أن يعيش في التناقضات، ووحدها الحكمة وخاصة عدم الظلم يزيلان أي شبح مؤذ من أشباح التناقضات.