رئيس كبير... لأوروبا صغيرة

TT

اعتذر... لم يعتذر... آسف... نصف آسف...

هكذا افتتح السنيور سيلفيو برلوسكوني عهده الميمون على أنقاض اوروبا.

برلوسكوني رئيس وزراء ايطاليا الملياردير، والرئيس الجديد الدوري لـ«الاتحاد الاوروبي»، يعد تبعاً للصحافة الاقتصادية المتخصصة أغنى حاكم منتخب في العالم، إذ تقدر ثروته بنحو 6 مليارات دولار اميركي.

هذا رقم ضخم في دول الغرب الديمقراطية المتقدمة، حيث الطبقة الوسطى اكبر شرائح المجتمع. وحيث من شأن التطبيق السليم لمفهوم «دولة المؤسسات» منع التراكم السريع لثروات بهذا الحجم، او على الاقل منع الجمع بين الثروات الضخمة واستثمارها في بناء نفوذ سياسي.. او استثمار النفوذ السياسي او الاعلامي، او كليهما (كحالة برلوسكوني) لتوسيع رقعة الامبراطوريات المالية الاخطبوطية.

في اللغة العربية الفصحى، وضع كهذا يسمى «فساداً» او «محسوبية»... ولكنه لم يعد يسمى كذلك في اللغة الايطالية منذ اضحى برلوسكوني «دوتشي» قطاع الاعلام المرئي وغير المرئي. غير ان إفلاته المرة تلو المرة من الادانة بالفساد، وغالباً لأسباب شكلية او تقنية او «فسادية»، إنجاز يثير اعجاب محبيه والمستفيدين منه بقدر ما يثير ضيق كارهيه وكارهي ما يمثل.

تناول «منجزات» برلوسكوني في إنقاذ نفسه من الإدانة بالفساد، يستحق ان تخصص له عدة مقالات مدعمة بالارقام والوثائق. ولكن من المستحسن في هذه السانحة النظر أولاً الى الدور الذي يمكن ان يلعبه هذا الرجل على المسرحين الاوروبي والدولي خلال الاشهر الستة المقبلة. فهذه فترة محورية بالغة الحساسية، سواء بالنسبة لعملية توسيع عضوية «الاتحاد الاوروبي»، والدور السياسي الدولي الذي يمكن ان يلعبه هذا «الاتحاد»، واستطراداً ما يمكن ان يفعله في ظل الأحادية الاميركية شبه المطلقة عالمياً.

بدايةً، سبق لبرلوسكوني ان اعلن قبل سنتين بعد فوزه بالانتخابات العامة (للمرة الثانية) وترؤسه اقوى حكومة يمينية متشددة في تاريخ ايطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية انه سيتفق «على الدوام مع سياسة الولايات المتحدة كيفما كانت». وكرّر هذا الموقف قبل بضعة أيام عندما تسلم رئاسة «الاتحاد الاوروبي» في تأكيده انه لا ولن يرضى بأن يتحول «الاتحاد» الى منافس لواشنطن.

والواقع ان ما يلفت في هذا الكلام توقيته لا جوهره، إذ سبق للزعيم الايطالي ان برهن عملياً بالتزامه عبر ما عرف بـ«وثيقة الثمانية» الشهيرة التي وقعها مع قادة بريطانيا واسبانيا والبرتغال وبعض دول اوروبا الشرقية دعماً لحرب العراق، في وجه المحور الفرنسي ـ الالماني. ولا شك في ان تلك الوثيقة جاءت مفصلاً حاسماً أكد التصفية الفعلية لـ«الاتحاد الاوروبي» كقوة سياسية قادرة ـ بصيغتها او فلسفتها او تركيبتها الحالية ـ على الوقوف على قدميها والدفاع عمّا تبقى من مصالح قومية لدولها، او مصالح دولية اوسع لها ككتلة قارية.

عنصران آخران يستحقان الاشارة هنا، هما ان لدى «برلوسكوني رجل الاعمال» ارتباطات استثمارية خاصة ضخمة في السوق العالمية، تتكامل وتتعزّز في فضاء «العولمة» الاميركية. ولديه أيضاً منظور مصلحي وايديولوجي محلي قوي جداً داخل ايطاليا في معركته المستمرة ضد قوى كانت على الدوام معادية للرأسمالية الجامحة، او تواقة للوحدة القارية بعد توتر حقبة «الحرب الباردة».

غير انه في توليه رئاسة «الاتحاد الاوروبي» يجمع اليوم مزيداً من المفارقات ...

فهو ـ مثل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا ـ يرى توسيع شكل «الاتحاد» أضمن خطوة لـ«تقزيم» مضمون الوحدة او نسفه عن بكرة ابيه. وهذا مع ان مشروع الوحدة ابصر النور في العاصمة الايطالية روما عام 1957، والتزمت ايطاليا حتى اليوم بكل الخطوات التوحيدية الاوروبية، وفي مقدمتها «اتفاقية شينغن» والعملة الاوروبية الموحدة (اليورو).

ثم ان برلوسكوني الساعي الى «توسيع» رقعة «الاتحاد» المتجه نحو الترهل، يتزعم داخل ايطاليا ائتلافاً حكومياً مع قوتين شبه عنصريتين مثيرتين للجدل، وخصوصاً في اوروبا; هما «التحالف الوطني» (الذي يقوده الفاشيون الجدد) برئاسة جيانفرانكو فيني، و«رابطة الشمال» شبه الانفصالية بزعامة اومبرتو بوسي.

بالنسبة للعلاقة مع الفاشيين الجدد، يبدو غريباً ان يثير برلوسكوني موضوع النازية في رده بالأمس على النائب الاوروبي الالماني مارتن شولتز ـ وهو الرّد الذي أثار أزمة دبلوماسية بين برلين وروما. من الغرابة حقاً ان يغمز حليف للفاشيين الجدد من قناة النازية ساخراً من نائب الماني ديمقراطي اشتراكي ذاق حزبه الأمرين من العهد الهتلري!

ثم ان «الاتحاد الاوروبي» واجه حرجاً كبيراً قبل بضع سنوات عندما ضم حزب الشعب النمساوي المحافظ نواباً من حزب الحرية الفاشي المتطرف الى الائتلاف الحكومي الذي شكله، ويومذاك تعرضت النمسا داخل «الاتحاد» لما يشبه المقاطعة السياسية.

اما عن تناقض اتجاهي التوسيع والانفصالية، فيضم ائتلاف برلوسكوني الذي يفترض بزعيمه الاشراف على تسريع ايقاع الوحدة الاوروبية «رابطة الشمال». و«الرابطة» لمن يهمه الأمر حزب لم يتردد عندما ظهر على الساحة السياسية في المناداة بتمزيق وحدة ايطاليا، متعالياً على فئة عريضة من مواطنيه، يراهم «جنوبيين» متخلفين و«متوسطيين» كسالى... لا قواسم مشتركة بينهم وبين متمدني «بادانيا» في الشمال!

مع هذا، كل ما سبق يمكن ان يدرجه مناصرو برلوسكوني في خانة الثرثرة الفارغة. اما ما ليس ثرثرة وحتماً ليس ثرثرة فارغة، فهو السجل القانوني المثير... للرئيس، الذي شمل بكراهيته الانتقائية ايضاً، في الماضي القريب، العرب والمسلمين.

ومن النماذج الساطعة في سجله، اتهامه بتحويل أموال بصورة مخالفة للقانون من شركته العائلية القابضة «فينينفست» لشركة «أول ايبيريان» (وهي من شركات الأوف شور) بغرض تمويل حزبه «فورتسا ايتاليا» (الى الامام يا ايطاليا) بين عامي 1991 و1995. وقد ادانته المحكمة وحكمت عليه بالسجن، الا ان الحكم سقط في محكمة الاستئناف تحت بند تجاوز المهلة القانونية.

واتهم عبر «فينينفست» بثلاث تهم دفع رشاوى لشرطيي ضرائب الدخل بين عامي 1989 و1993، وادانته المحكمة وحكمت عليه بالسجن. ولكن لدى استئناف الحكم برئت ساحته من تهمتين وسقط الحكم في التهمة الثالثة، ايضاً تحت بند تجاوز المهلة القانونية، قبل ان يبرأ.

واتهم مع آخرين في «فينينفست» بالتعامل بأرصدة مخفية بلغت أكثر من مليار دولار بين 1989 و1996. وردّت التهم هذا العام بموجب قانون جديد قضى بأنه مرّ على القضية وقت اطول مما يسمح بالنظر فيها.

واتهم بالتلاعب المحاسبي في صفقة شراء ناديه الكروي آ سي ميلان اللاعب جيانلويجي لنتيني من نادي آ سي تورينو. وأعفي من المحاكمة بموجب قانون جديد للمهلة القانونية سنّته الحكومة التي يترأسها!

هذه الحقائق يعرفها جيداً رجل الشارع في ايطاليا. والآن جاء الدور على كل اوروبي لأن يتعرف على الرجل الذي أقنع نفسه بأنه أكبر من بلده... وبالذات من قضائها وهيبة الدولة فيها، والذي يتضخم حجمه الآن تعاكسياً مع التضاؤل التدريجي في حجم اوروبا.

«فورتسا» أميركا... «أريفاديرتشي» (وداعاً).... أوروبا!