ما يجب أن تعرفه الحكومة الفلسطينية

TT

محمود عباس (أبو مازن) رئيس الوزراء الفلسطيني، هو صاحب نظرية معلنة تقول بضرورة وقف عسكرة الانتفاضة، وحجته أن هذه العسكرة أدت إلى تدمير ما بنته السلطة الفلسطينية، وإلى تدمير البنى الأساسية للمجتمع الفلسطيني، وإشاعة البطالة والفقر. وتنتهي هذه النظرية إلى القول بفشل الانتفاضة التي لم تحقق أي إنجاز للشعب الفلسطيني، وضرورة العودة إلى أسلوب المفاوضات القادر وحده على تحقيق الانجازات المنشودة. ويقف خلف محمود عباس في هذا الفهم فريق صغير من كادرات حركة فتح، وفريق من المثقفين الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم في حال الانتفاضة وقد أصبحوا على هامش الحياة السياسية، وفريق من رجال الأعمال الذين يعملون في التجارة، وبشكل خاص في التجارة مع إسرائيل، بحكم واقع الاحتلال المفروض على التجارة الفلسطينية.

عبر هذا الاتجاه عن نفسه في البيان الوزاري الذي قدمه محمود عباس إلى المجلس التشريعي الذي نال الثقة على أساسه، وهو بيان ركز على النقاط السلبية الواردة أعلاه، كما ركز بالمقابل على المطالب الفلسطينية الأساسية المنشودة في عملية التفاوض، وكان توازنه هو السبب الرئيسي وراء عملية منح الثقة. ثم عبر هذا الاتجاه عن نفسه ثانية في خطاب محمود عباس في قمة العقبة مع الرئيس الأميركي، حيث ركز محمود عباس في خطابه على الالتزامات الفلسطينية في خارطة الطريق، وعلى التعبير عن النوايا الطيبة تجاه العذاب اليهودي، وعلى الإصرار على وقف «العنف» الفلسطيني، والذي ساد في القمة إطلاق صفة الإرهاب عليه. وخلا الخطاب من ذكر المطالب الفلسطينية الأساسية، وجاء وكأنه اعتراف بهزيمة الانتفاضة، أو اعتذار عن جهلها وغلوها، واستقبل الخطاب بسبب ذلك بغضب فلسطيني عارم.

وجرى التعبير مرة ثالثة عن النفس، فلسطينيا وإسرائيليا، بعد الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي على الانسحاب (إعادة الانتشار) في قطاع غزة ومدينة بيت لحم، وبعد أن أعلنت الفصائل الفدائية الأساسية هدنة مشروطة بتوقف إسرائيل عن عمليات الاجتياح والاغتيال والتدمير وبناء المستوطنات. وهنا أعلن موشي يعالون رئيس الأركان أنه إذا تم الالتزام الفلسطيني بوقف إطلاق النار (أي إذا تم الالتزام الفلسطيني بوقف الانتفاضة)، فإنه يستطيع القول بأن إسرائيل قد انتصرت. بينما واصل محمود عباس العمل حسب منهجه الذي يعتبر عودة الهدوء، وحرية التنقل داخل غزة، وإمكانية العودة إلى بناء أجهزة السلطة، هي إنجازه الأساسي على قاعدة قناعته بفشل الانتفاضة، وبأنها كانت ضررا وقع على الشعب الفلسطيني أكثر مما وقع على إسرائيل.

أنا شخصيا أميل إلى الاعتقاد بأن الموافقة الفلسطينية على خارطة الطريق، بما تستتبعه من وقف للمواجهة مع الاحتلال، كانت أمراً لا بد منه سياسياً، بسبب الإجماع الدولي الضاغط حول ضرورة قبولها، وبسبب الرغبة العربية بذلك أيضاً، من دون أن يعني ذلك أن الموافقة على خارطة الطريق تعني الالتقاء مع التيار الآخر الداعي إلى وقف الانتفاضة، تحت شعار وقف عسكرة الانتفاضة. ولكن هذه الموافقة، حتى تثمر في المفاوضات المقبلة، يجب أن تكون مستندة إلى ثقة المفاوض الفلسطيني بنفسه، وعدم شعوره بالانسحاق أمام المفاوض الاسرائيلي وآلته العسكرية. وأساس الثقة بالنفس هنا، أن يكون لدينا جواب فلسطيني حقيقي وواضح وصارم حول الانتفاضة، وهل نجحت أم لا. أميل للقول بأن الانتفاضة قد نجحت، بل أميل للقول من دون مبالغة انها كانت قادرة على الانتصار، وان التدخل الأميركي الكثيف جاء في هذه اللحظة بالذات، بعد أن بدأت إسرائيل تتأثر جدياً بنشاط الانتفاضة واستمرارها. وليس في معرفة هذه الحقيقة أية مدعاة للارتداد، أو لتفسير الأمر بأننا أخطأنا بالموافقة على الهدنة، فالسياسة لا تكون بالاختيار الحر بين أمرين أبيض وأسود، وهذا بالضبط ما واجهناه، وكان لا بد أن ننسجم معه باسلوب مقبول، خاصة إذا فهمنا موضوع انتصار الانتفاضة بعيدا عن تصور الانتصار العسكري الحاسم في أرض المعركة، وفهمناه على أنه إيقاع خسائر بالخصم، تتكاثر وتدفعه إلى إعادة النظر بسياسته، وهذا ما كانت الانتفاضة على وشك تحقيقه. مع معرفتي بأن الطرف الفلسطيني الذي سيفاوض لا يملك هذه الثقة بالنفس (وبالانتفاضة)، وهو ينطلق من أننا خسرنا، ولا بد أن نلجأ إلى التفاوض، وأن نقبل في التفاوض قانون الخاسر، فنأخذ ما يعرض علينا، تحت شعار «سننال حقوقنا قطعة قطعة».

أمامي وأنا أكتب الآن، مقالة قيمة للباحث الاقتصادي الفلسطيني الدكتور فضل النقيب، منشورة في العدد الجديد من مجلة «دراسات فلسطينية» (العدد 54)، تدرس تأثير الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي استناداً إلى الأرقام الإسرائيلية الصادرة عن البنك المركزي. وميزة هذه المقالة (ودراسات الدكتور فضل النقيب الأخرى) أنه تتعاطى مع الاقتصاد ومع النتائج السياسية للاقتصاد بشكل موحد متكامل، من دون أن تؤثر السياسة على دقة تحليله الاقتصادي، ولكن من دون أيضاً ما تفعله الدراسات الاقتصادية الأكاديمية المعروفة.

توضح المقالة أنه حين اندلعت الانتفاضة في الشهر التاسع من العام 2000، كان الاقتصاد الإسرائيلي قد مر بعشرة أعوام من النمو والازدهار، جعلت مستوى معيشة الفرد في إسرائيل موازية للمستوى القائم في الدول الصناعية الغنية، وقد حدث ذلك بفعل ثلاثة عوامل: تدفق نحو مليون مهاجر سوفياتي مزودين بمؤهلات علمية ومهنية عالية تم استيعابهم بفضل 10 مليارات دولار جاءت من أميركا كقروض بأسعار فائدة منخفضة. ثم عملية التسوية السياسية بدءاً من مؤتمر مدريد 1991، وما تبعها من إلغاء للمقاطعة العربية، ومن تأهيل عالمي لإسرائيل عبر الاعتراف الدولي بها وفتح الأسواق أمامها. ثم عملية الإصلاح الاقتصادي التي بدأت في إسرائيل منذ عام 1985 (الخصخصة، تحرير السوق المالية من القيود، وقدوم الاستثمارات العالمية)، وقد أدى هذا الوضع إلى معدل نمو في الناتج المحلي بين 5% إلى 6%، وارتفع في العام 2000 وهو عام اندلاع الانتفاضة إلى 8%.

وتوضح المقالة أنه مع بدء الانتفاضة، توقف النمو الاقتصادي في إسرائيل، وانخفض بسبب الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2000 إلى 6,4% (خسارة في حدود ملياري دولار). وفي عام 2001 زادت خسارة إسرائيل الاقتصادية إلى 6 مليارات دولار، وزادت عام 2002 إلى 12,7 مليار دولار.

تقول المقالة إنه من الخطأ القول إن الخسائر كلها قد حدثت بسبب الانتفاضة، فهناك الكساد العالمي الذي يؤثر مباشرة على إسرائيل، ولكن الانتفاضة تشيع جواً من عدم الاستقرار داخل إسرائيل، لا يشجع على الاستثمار، لا الاستثمار المحلي ولا الاستثمار الأجنبي، فالاستثمار الأجنبي مثلاً تراجع من 1,5 مليار دولار إلى نصف مليار دولار، وأقل من ذلك في العام 2000. وهنا يجب أن نلاحظق كما يقول الكاتب، أن العام 2002 شهد أعنف المواجهات في الانتفاضة، التي قامت بعمليات نوعية ألحقت خسائر كبيرة بجنود الجيش الإسرائيلي، ومن ضمنها عمليات مخيم جنين، وعملية القنص في الخليل، وعملية تفجير دبابات المركافاه. ويورد الكاتب تحليلاً مأخوذاً من تقرير للبنك المركزي الإسرائيلي جاء فيه إن تحليل دائرة الأبحاث في البنك المركزي، يدل على أنه بعكس ما حدث عام 2001 عندما كانت الانتفاضة وأزمة صناعات التقنية العالمية مسؤولتين بشكل متساو عن خسائر الانتاج، فإنه في سنة 2002 كانت الانتفاضة هي المسؤولة عن الجزء الأكبر من الخسائر .

هذه مقتطفات بسيطة من المقالة المذكورة. لا نوردها من أجل تمجيد الانتفاضة، وإن كان ذلك من حقها، وإنما نوردها لنقول للمفاوض الفلسطيني، ولأصحاب نظرية وقف عسكرة الانتفاضة، انه يستطيع أن يذهب إلى الماوضات وفي يده سلاح قوي، وهو أن الانتفاضة هزت إسرائيل ووضعتها أمام أزمة اقتصادية خانقة لم تواجه مثلها إلا عام 1953، وهو يستطيع أن يطلب ثمن ذلك كحق نضالي وليس كمنة من المفاوض الإسرائيلي. ونوردها لنقول للمفاوض الفلسطيني إنه يستطيع أن يذهب إلى المفاوضات ليقول بأن وقف عسكرة الانتفاضة هو موقف وعي سياسي فلسطيني وليس موقفاً ناتجاً عن الفشل، ويمكن العودة إلى الانتفاضة إذا فهمت إسرائيل الأمر عكس ذلك.

وهذا الذي نقوله هنا، مطلوب من حكومة محمود عباس التي تمثل نهجاً تحليلياً مخالفاً، والمخالفة هنا لا تتناقض مع رأي آخر، بل تتناقض مع الوقائع والحقائق، وحين تفاوض بما هي عليه من رأي فإنها ستمكن موشي يعالون من القول «لقد انتصرنا»، أما حين تفاوض بإدراك لما أنجزته الانتفاضة من تأثير على إسرائيل (تحدثنا عن الاقتصاد ولم نتحدث عن الأمن)، فإنها ستمكن محمود عباس من القول «هذه هي مطالب الشعب الفلسطيني». وهو مؤهل لأن يفعل ذلك بالرغم من بعض الذين حوله الذي يتوقون إلى سماع تصفيق الآخرين لهم.