المشروع الثقافي العربي: أزمة المفهوم والآلية

TT

انضمت مؤخرا مؤسسة الفكر العربي التي أسسها الأميرالشاعر خالد الفيصل إلى بقية المؤسسات الثقافية العربية المستقلة التي ظهرت في السنوات الأخيرة في الساحة العربية، في سياق الوعي المتزايد بأهمية دور المجتمع المدني بمكونه الثقافي في ديناميكية التغيير المنشود.

وبدون أن ندخل في محاولة تحقيب معقد ومطول لمسار المشروع الثقافي العربي، نشير إلى أن هذا المشروع تمحور في مرحلته الأولى (نهاية القرن التاسع عشر) حول مفهوم «التمدن» الجامع بين مقولتي «التقدم» و«التحديث» في المرجعية الغربية.

وقد حملت هذا المشروع مجموعة دوريات ومجلات فكرية وصل تأثيرها الوسط الثقافي الأوسع وخلفت آثارا مكينة في الحقل الفكري العربي، من أبرزها «العروة الوثقى» التي أشرف على تحريرها الشيخان محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، و«المنار» و«المقتطف» و«الرسالة». في حين لم يتخذ هذا المشروع بنية مؤسسية تنظيمية دقيقة لأسباب عديدة ليس هذا مجال ذكرها.

وبداية من أربعينات القرن الماضي، بدأ المشروع الثقافي العربي يتخذ سمات أيديولوجية تتقاطع على نحو واسع مع التنظيمات الحزبية والحركية التي عرفتها الساحة العربية أوانها، فظهرت الأشكال الأولى للتلوينات المألوفة راهنا (السلفية الدينية والقومية العروبية واليسارية الثورية)، قبل أن تنجح الأيديولوجيا القومية، في الانفراد بالهيمنة في الساحة السياسية العربية في حقبة المد القومي في الخمسينات والستينات.

وبطبيعة الأمر، أصبح الهم المرتكز في هذه المرحلة هو موضوع الهوية والانتماء القومي، بدلا من مقولة التمدن بدلالتها التنويرية العميقة التي اختزلت في بعد التحديث وفق دلالته الضيقة (مع الميل لآليات التخطيط والمركزة والدولنة الشاملة في ما وراء التمايز الظاهر في الخيارات التنموية).

ومع انتكاسة الأيديولوجيا القومية بعد هزيمة 1967، عرف اليسار العربي المستند للمقاييس الماركسية طفرة نوعية في الحقل الثقافي جسدها انتاج بعض دور النشر الكبرى التي عملت على تعريب عدد من الأعمال الفكرية والإبداعية الأجنبية، كما سعت إلى إضفاء مسحة نقدية على الثقافة العربية، مما أفضى إلى تبلور مشاريع متكاملة لقراءة التراث العربي ـ الإسلامي من منظورالمناهج التاريخية الجديدة (أعمال طيب تزيني وحسين مروة ومحمد عابد الجابري...).

وهكذا أدت دور نشر معروفة مثل الطليعة والتنوير والفارابي..الدور الذي اضطلعت به المجلات النهضوية الأولى والتنظيمات الحزبية في عهد المد القومي.

ومع انطلاق عقد الثمانينات من القرن المنصرم تحول هم المشروع الثقافي من مقولة الثورة الشعبية إلى مقولة الديموقراطية التي جرى استيعابها في الفكر القومي الذي راهن طويلا على الآلية الانقلابية والشعبوية الراديكالية ، فأصبحت هذه المقولة نوعا من نقطة التقاء تيارات سياسية وأيديولوجية شتى يجمع بينها الإحباط والتهميش داخل الحقل السياسي.

وهكذا نشأت أطروحة الدور المحوري لتشكيلات المجتمع المدني في إنجاز النقلة الديموقراطية المنشودة مع التركيز على المؤسسات الثقافية المستقلة التي بدأت تظهر على نطاق واسع وفق علاقة معقدة وملتبسة بأنظمة الحكم.

ولعل أبرز هذه المؤسسات في العقدين الأخيرين مؤسستان: أولاهما مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت الذي قام على مشروع تسليح الفكرة القومية بالعدة النظرية التي يحتاج إليها، باعتبار أن أزمة الأيديولوجيا العربية عائدة في الأساس إلى هشاشتها النظرية وعجزها عن استيعاب المقاربات والإشكالات الفكرية الجديدة.

وقد آل مشروع المركز إلى ما عبر عنه بالمشروع الحضاري العربي الجديد الذي يقوم على محاولة بناء مرجعية قومية جامعة على أساس اقتران مفاهيم الوحدة والديموقراطية والاستقلال والتجدد.

أما المؤسسة الثانية فهي منتدى الفكر العربي الذي أنشأه في الفترة ذاتها الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن السابق من أجل «تجسير الفجوة بين الحاكم والمثقف العربيين»، وأراده مجتمعا من النخب الفكرية والسياسية يسهم في استشراف المستقبل العربي وتصويب وتوجيه الاستراتيجيات القومية. وإلى جانب هاتين المؤسستين الفكريتين السياسيتين ظهرت في أغلب البلدان العربية تنظيمات مشابهة جديدة على الساحة مثل منظمات حقوق الإنسان، ومراكز الدراسات الاستراتيجية.

ومن السابق للأوان تقويم عمل هذه المؤسسات، التي لئن عبرت من دون شك عن حيوية غير مسبوقة للمجتمع المدني العربي، كما حركت سواكن الثقافة العربية، إلا أنها بقيت على العموم عاجزة عن تأمين مطلبين أساسيين في الثقافة العربية:

أولهما هو: إيجاد آليات تفعيل المعطى الفكري في الساحة الجماعية العامة، إذ لم تتمكن لا من بلورة «مجتمع المفكرين» الذي برز في عصر الأنوار الأوروبي وقاد ديناميكية التغيير الثقافي والمجتمعي، ولا من بناء مجتمع مدني حقيقي بالمعنى الذي استخدم هيغل للعبارة أي المكون الوسيط بين المواطن الفرد في حريته وذاتيته والدولة بصفتها الشمولية المطلقة.

ثانيهما: إيجاد آليات التواصل مع الآخر، أي القدرة على استيعاب الثقافة العالمية والإبداع من داخلها، وإسماع الصوت العربي من خلال هذا التفاعل المطلوب.

وهكذا برزت في الآونة الأخيرة خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر أطروحة «حوار الحضارات» بديلا من التركيز على دور مفترض (بدا طموحا لا واقعا) لمجتمع مدني هش وغير فاعل، بقدر ما هي تعبير عن مأزق هامشية العرب نظاما إقليميا وثقافة على المسرح العالمي.

بيد أن آلية المشروع الثقافي العربي لم تعد هذه المرة لا دورية فكرية ولا تنظيمات حزبية، ولا دور نشر أو منتديات فكرية، بل تحولت إلى قنوات البث الفضائي التي عرفت انتشارا مذهلا في السنوات الخمس الأخيرة، ورصدت لها إمكانات هائلة، وحظيت بإقبال جماهيري واسع ليس هذا مجال رصد خلفياته أو تقويمه.

والواقع أن الإعلام الفضائي العربي يضطلع اليوم بدور يتجاوز مسؤولياته وقدراته، ولعل العمل الإعلامي الأصلي أي رصد الخبر ونشره هو آخر اهتماماته نتيجة لطغيان التحليل والتنظير وصناعة الرأي والإثارة عليه. ولقد أحسن الإعلامي المرموق زميلنا سمير عطا الله تقويم التجربة الصحفية العربية في سلسلته الأخيرة بـ«الشرق الأوسط» حول الإعلام العربي.

فالوسائل الإعلامية إذن ليس بمقدورها تعويض العمل الثقافي المطلوب الذي لا بد أن يتشكل وينمو داخل مؤسسات من نوع جديد، تطرح المفاهيم والرؤى التي تلائم المرحلة الجديدة التي انهار فيها المشروع النهضوي العربي، وغدت ثوابته موضوع تساؤل، حتى ولو كانت الأداة الإعلامية هي الآلية الأكثر فاعلية لإيصال منتوج ثقافي لا يزال يحتاج للصناعة والإبداع.