الذي أخفق

TT

ثمة هجوم متصاعد على ما يسمى «لغة الستينات»، او ايضاً «اللغة الخشبية». وفي ذلك تعميم مجحف. فلم تكن الستينات كلها احمد سعيد. ولم يكن العرب جميعاً «ظاهرة صوتية» كما سماهم الراحل عبد الله القصيمي. ولم يكن الفكر القومي هو المشكلة وانما كانت المأساة في بعض الذين وقع في ايديهم من جلاوزة وفتوات وبلطجية وعلق. وليس «المشروع القومي» هو الذي اخفق بل الذين اختطفوه من صفاته وثقاته ومثالييه وانقيائه. ولم تكن العلة في النص بل في المسدس. ولا في الثورة بل في الانقلاب. ولا بالمؤسس بل بالهواة. ولا بالقانون بل بالقضاة. ولا بالامن بل بالجلاد. ولا باصحاب الحلم بل بخبراء الكوابيس.

وبسبب هؤلاء وليس بسبب «المشروع القومي» نحن هنا. اي اننا في عالم نسمع فيه على الدوام وطء الجزمة الاسرائيلية في فلسطين ووقع الحذاء الاميركي في العراق والعزة للعرب في كل مكان. ولذلك نحن في حاجة الى عصر نهضة جديد لكن ليس مفرغاً من الروح القومية والرسالة القومية. نحن في حاجة الى قوى قومية تدرك ان الشرط القومي الاول هو التسامح. واننا عرب بالضرورة القصوى لا بالاكراه. ولا بالذل وبالجهل. وفي حاجة الى قوى اجتماعية جديدة، تعلمنا ان مليارا ونصف مليار بائس صيني لا يستطيعون شراء مدينة جنيف (من دون بحيرتها). وفي حاجة الى حكومات ودول، تستورد الدواء وتصدّر العلماء، بدل ان تستورد المتفجرات وتصدر الفقراء. او من هم دون الفقر.

قبل ان ندخل الى العصر والى المجتمع الدولي والى مجتمع الاستهلاك والى مجتمع السوق، يجب ان ندرك ان علينا اولاً، ان ندخل الى الحياة. وبدائيات هذه الحياة وشروطها تسمح بأن يكون هناك تخلف مثل تخلفنا شرط ان تكون لنا مخيلة مثل فنلندا، حيث حجم اعمال شركة واحدة في حجم اقتصاد مصر

العام 1960 كان دخل السنغافوري الف دولار واللبناني اربعة آلاف وبعد 43 عاماً اصبح دخل السنغافوري 25 الفاً. دخل اللبناني نحو الاربعة. وفي اربعة عقود لم يدلِ السنغافوري بتصريح ولم يذهب الى الاذاعة لكن اصبح افقر السنغافوريين يملك شقة من ثلاث غرف وبيئة نظيفة على نحو خيالي. اما اللبناني (والعربي عموماً) فانه لم يعد من الاذاعة بعد. واذا كان خريجاً فهو غير قادر على الزواج لانه لا يملك ايجار شقة صغيرة. واذا كانت زوجته تعمل، فانهما معاً، لا يملكان ايجار شقة في الريف. لكن كلاهما يستطيع الذهاب الى ساحة البرج للتظاهر.

احد مصادر الدخل «القومي» في لبنان ومصر والمغرب والسودان والعراق، هو المال الآتي من الهجرة. والدول التي يسبها المزعقون ويطالب احفاد احمد سعيد بزوالها، هي التي تمنح مئات آلاف المهاجرين العرب اللقمة اللائقة، لهم ولمن لم يهاجر من اهلهم وابنائهم بعد.

نحن، بلاد العيب. عمالنا يشتهون العمل في اسرائيل. ووجوهنا لا تطل على الشاشات الا باكية او منتحبة. وامواتنا لا يدفنون الا جماعات وفوقهم اعلام بول بوت باسماً. وزعماؤنا لا يقبلون اقتراعاً غير مطلق، لان على المرضى ونزلاء العناية الفائقة وسكان السجون الاسوأ من القبور، ان يتوجهوا الى اقلام الاقتراع. على الجميع ان يقولوا نعم. ان كل ما علينا ان نفعله هو ان نتأمل قليلاً في المرآة. وبدل ان نكابر ونزعّق ونستورد حمولات الامونيا، علينا ان نسأل كم هو عدد الاطفال الذين في الشوارع. وكم عدد الرجال الذين لا يجدون شبعاً الا في قمامة الشوارع. وكم عدد الفرسان الذين يعتدون على نسائهم واطفالهم بالضرب كل يوم. وكم عدد العاملات في دعارة الفقر والعوز، فيما الرجل يرتكب جريمة "الشرف" لأن شقيقته لم تدفع له حصته من صفقة العار.