سورية ـ العراق: نهاية الهوى العذري

TT

لست مؤرخاً، ولا أروي أسراراً. كل همي أن أحاول تفسير التاريخ إلى من يقرأ من الأجيال الجديدة، ذلك أني أؤمن بأن كل مجتمع لا يستطيع أن يتقدم بثقة وأمل نحو الحاضر والمستقبل إذا سُلبت منه معرفة الذات.

والذكرى تدخل في صميم نسيج العقل والهوية. والماضي ذكرى وتذكر وتذكير. ومن دون إعادة بنائه على البحث العلمي، فلا يمكن تلافي أزمة البعثرة والضياع التي يعيشها الرأي العام العربي اليوم. وقد سُلب منا الماضي البعيد، لأنه ما زال يقدم إلينا بكل جلاله وهيبته الأسطورية، دون أي نقد وعرض لأشخاصه وحقائقه واجتهاداته. نحن نحارب اليوم الأصولية المسلحة، دون أن نقرأ ونحلل الاجتهاد الذي اعتمدته، ودون أن نحصن الأجيال من فكرها المتداول بسهولة علناً وإلكترونياً. ونحن نصادر كتاب الفكر الحر، ونسمح بتداول وتدريس كتب الاجتهاد الضيق والمنغلق، ظنا ووهما بأن الاجتهاد أيضا مقدس لا يمس.

وها هو الماضي القريب يُسلب من ذاكرة الأجيال الجديدة ومن هويتها، لأن سلطة الحاضر لا تريد لهذه الأجيال أن تعرفه. وهي تعمد إلى طمسه أو تزييفه وفق هواها، لتستطيع أن تكيف عقول الأجيال وفق آيديولوجياتها ومصالحها الضيقة.

هذه الشذرات الأسبوعية هي جزء من محاولة تفسير التاريخ القريب، تاريخ العلاقة الحديثة بين العراق وسورية في ضوء الحاضر العراقي اليوم. وفي ظني أن العراق بات هما سوريا مقلقا للنظام والمجتمع. فما من بلدين أثر أحدهما في الآخر كما أثرت الأحداث والمتغيرات هنا بالأحداث والمتغيرات هناك. وأقول إن الاحتلال الأميركي للعراق هو في أحد جوانبه محصلة لأخطاء وخطايا التعامل السياسي بين البلدين خلال السنوات الخمسين الأخيرة.

قلت في الثلاثاء الماضي ان العلاقة العراقية ـ السورية في النصف الأول من القرن العشرين كانت علاقة عشق وصل إلى حد الوجد. عندما توفي ياسين الهاشمي قامت مناحة في سورية. صدرت الصحف السورية مجللة بالسواد حزنا على هذا البطل القومي العراقي. وعندما أصبح شقيقه طه رئيسا (بلا سلطة) لأركان القوات العربية في فلسطين، كان الرئيس شكري القوتلي يحدثه عن هواجسه (مذكرات طه الهاشمي) وخوفه من أن يقود فوزي القاوقجي انقلابا عليه.

كان الاستقلال الوطني مضاداً للوحدة القومية! نظام شكري القوتلي هو الذي سلم نوري السعيد الشهيد صلاح الدين الصباغ القائد العسكري لثورة الكيلاني (مذكرات نصوح بابيل)، فتسبب في شنقه «حتى الموت» حسب التعبير العراقي. وأضيف هنا أن نوري السعيد وعبد الإله حضرا شخصيا «حفل» إعدام الصباغ وضباطه، وأرسيا معا، قبل صدام، «التقليد» العراقي بمشاركة القيادة الرشيدة في طقوس إعدام المعارضة «المجرمة».

انتهت علاقة العشق البريئة بين البلدين في نهاية الأربعينات. مات الحب العذري في القلوب العراقية ـ السورية، وبدأ صراع لاهب على كسب سورية. وحل المال محل البراءة كأداة إغواء للساسة السوريين. ثم ما لبث الأميركيون والبريطانيون والسوفييت أيضا ان دخلوا على خط الصراع. فكسبُ سورية إلى هذا المعسكر أو ذاك كفيل، بحكم موقعها ودورها السياسي، بقلب ميزان الحرب الباردة في منطقة استراتيجية كالشرق الأوسط.

كان القوتلي ممتنا ومقدرا لدور بريطانيا في تحقيق استقلال سورية ولبنان عن فرنسا، لكنه انقلب رافضا للوحدة مع العراق (البريطاني). وأعتقد أن القوتلي كان محقا وصائبا في رفض مشاريع (الهلال الخصيب) أو (سورية الكبرى مع الأردن). وقد انحاز إلى مصر والسعودية في حرصهما على احتفاظ سورية باستقلالها، لأن العراق والأردن كانا آنذاك مكبلين بقيود المعاهدات والاتفاقات مع بريطانيا التي تحد من استقلالهما وإرادتهما الحرة.

احتدم الصراع العربي على سورية وفي داخلها، مع الانقلابات العسكرية السورية في نهاية الأربعينات. وغرق الصراع أحيانا بالمال والدماء في الخمسينات. بدأ انقلاب حسني الزعيم عراقي الهوى، وانتهى مصريا. كان انقلاب سامي الحناوي عراقيا من أوله إلى آخره. وكاد ينجح في تحقيق الوحدة مع العراق من خلال تعاونه مع ساسة اليمين السوري التقليدي الذين كانوا من أنصار الوحدة مع العراق، بدءا بهاشم الأتاسي وفارس الخوري، مرورا بصبري العسلي، وانتهاء برشدي الكيخيا وناظم القدسي الأكثر حماسة لهذه الوحدة.

كان الحناوي ضابطا محترفا، فقيرا ومتواضعا بلا طموحات سياسية. ورضي باستعادة الشرعية الدستورية وإعادة السلطة إلى الديمقراطية المدنية. وكان لأقطاب اليمين مصداقية سياسية وشعبية لم يفقدوها بعد. فالأتاسي رئيس «جليل» تلجأ إليه سورية عند مفاصل كل تغيير في قمة الهرم السلطوي. والخوري فارس المسيحية القومية المعتدلة وفكر سورية القانوني والعلمي. لكن رشدي الكيخيا بالذات كان أنزه الساسة في تاريخ سورية الحديث وأكثرهم جبنا على الإطلاق!

أهمية رشدي الكيخيا التاريخية تكمن في تزعمه حزب الشعب الذي كان أشد الأحزاب السورية حماسة ولهفة للوحدة مع العراق. ولم يكن الإغراء الوحدوي لدى الكيخيا بالمال العراقي، انما كان انتماؤه مع نده القدسي إلى حلب سببا في الإلحاح على الوحدة. فهذه المدينة السورية الكبيرة كانت تنتهي عندها تاريخيا قوافل التجارة العابرة لـ «طريق الحرير» الممتد من الصين وآسيا الوسطى إلى البحر المتوسط. وكانت عاصمة لإعادة تصدير الإنتاج الزراعي العراقي والسوري. وقد ألحق الانفصال بين البلدين بعد سقوط الامبراطورية التركية ضررا بالغا بازدهارها ومكانتها.

من هنا، كانت الوحدة مع العراق تستند عند الكيخيا إلى مصالح الشعبين الشقيقين الاقتصادية، أكثر من استنادها إلى مجرد هوى عاطفي. وكان عمل الكيخيا من أجل الوحدة يتم من خلال إصراره على أن يكون عملا ديمقراطيا بحتاً، وحتى عندما تلوث هوى الوحدة العذري بالمال، لم يستطع خصومها الأقوياء مس شرف الكيخيا بتهمة الرشوة بمال عبد الإله ونوري أو المخابرات الاميركية.

كان الالتزام بالديمقراطية «كعب أخيل» في ممارسة الكيخيا السياسية في بلد بلا ديمقراطيين يتمتعون بنزاهته وترفعه. نعم، أيد الكيخيا انقلاب الحناوي «العراقي»، لكن بعدما أعاد الأخير الديمقراطية النيابية. ولولا زهد الكيخيا لأصبح أفضل رئيس جمهورية لم تحصل عليه سورية: في المرة الأولى بعد سقوط الشيشكلي (1954) مفسحا المجال لترئيس القوتلي ثانية. وغادر الكيخيا الفرصة الثانية (1961) تاركا الرئاسة لصديقه القدسي قائلا: «اليد التي وقعت على اتفاق الوحدة (مع مصر) لا يمكن أن توقع مراسيم الانفصال».

ناظم القدسي ند للكيخيا في الاستقامة والنزاهة. هذا الزعيم الحلبي خريج جامعات سويسرا هو الذي بلور أول مشروع اتحادي عربي، وحمله إلى عواصم العرب في منتصف القرن الماضي. قوبل القدسي بفتور ورفض رسمي صامت، حتى في بغداد نوري، بل وأيضا في سورية. فقد قوضت انقلابات الشيشكلي المتتالية مشروع الاتحاد العربي، ومشروع الوحدة مع العراق، وأطفأت ايضا مستقبل المشروع الديمقراطي في سورية. ولو نجح القدسي لكان للعرب الآن نظام اتحادي ديمقراطي أكثر تطورا وفعالية من الجامعة العربية.

حزب الشعب الذي تزعمه الكيخيا والقدسي لم يكن يملك استقامة ونزاهة زعيميه. كان ائتلافا عريضا يضم اقطاعيين وأصوليين وعشائريين بل ومثقفين (عبد الوهاب حومد). نعم، كان الحزب ملتزما بالديمقراطية، لكن سعيه إلى الوحدة مع العراق اثار شبهات كثيرة. وكان الحزب بزعامته وقاعدته أضعف بكثير من أن يواجه المعارضة الشديدة للوحدة التي صدرت عن اليسار والجيش معا.

أترك الهوى الوحدوي العراقي ـ السوري معلقا عند نهاية الأربعينات بأهواء الانقلابات العسكرية السورية، لأواصل في الثلاثاء المقبل الحديث عن العلاقة التي تشبعت بدماء (المؤامرة)، وبإغواء المال السياسي المتدفق بغزارة خلال الخمسينات في شرايين الساسة السوريين.