صحوة مصحوبة ببشائر متسارعة في القارة السمراء

TT

يبدو أن تمنياتنا لافريقيا في مقالة الأسبوع الماضي أن تبقى في دائرة الضوء على الدوام، قد صاحبها من البشائر والمؤشرات ما يبعث على الأمل في صحوة افريقية متسارعة.. فها هو ديكتاتور ليبيريا تشارلز تايلور، يكفكف دموعه أمام شاشات التلفاز ويعلن رضوخه لمغادرة السلطة لاجئاً الى نيجيريا التي من المفترض أن يكون رئيسها قد وصل منروفيا بالأمس ربما ليصطحبه إلى منفاه الأخير، ويناقش معه بعد الضمانات التي توفر له الحماية حتى لا يجلب لمحكمة جرائم الحرب في سيراليون، حيث كان على رأس أكبر المافيات التي نهبت ثورة الماس السيراليوني وقدمت مقابله أسلحة لعصابة كانت تحاول زعزعة الحكم الديمقراطي الهش في فري تاون.

كان تيلور عندما وصل زحف الثوار إلى أبواب العاصمة منروفيا قد قبل عرضاً من الرئيس اوباسانجو باللجوء إلى نيجيريا، لكنه طلب التمهل حتى نهاية الشهر القادم، لكن الرئيس النيجيري رفض التمديد واشترط القبول الفوري. وها هو تايلور يقبل اللجوء الفوري ويكفكف دموعه أمام القصر وهو يقول: «أرى نفسي الآن بمثابة عنصر يسهل السلام، أنا لا أقاتل من أجل البقاء في السلطة، لكن من أجل حصول انتقال طبيعي دون حقد ولا غضب»، وزاد: «من المنطقي تماماً أن تصل قوات حفظ السلام إلى المدينة قبل رحيلي، ليس لدي حقد ضد الأمريكيين، لكني لا أفهم لماذا تصر الحكومة الأمريكية على رحيلي قبل وصول الجنود!».

حقاً وصدقاً، يفهم تايلور انه كان مصدراً للحقد في غرب القارة ومصدراً للكثير من الاضطرابات فيها ناهيك من غضب الشعب الليبيري عليه، فمثل ما كان العنصر الأبرز في المآسي الإنسانية التي حلّت بسيراليون، كان ضالعا في الحرب التي اندلعت في ساحل العاج أخيراً. ولعله ليس من قبيل الصدف، أن ترافق الإعلان عن رحيله مع إعلان الثوار في ساحل العاج أنهم أكملوا صلحهم مع الرئيس غباغبو، ما يعني ترسيخ وتعزيز المصالحة التي كانت قد تمت بإشراف فرنسي بعد أن كادت البلاد تغرق في حرب أهلية ـ عنصرية ودينية ـ ولا شك أن ساحل العاج استفادت من الدروس ما يكفي وأنها ستصحح كل الأخطاء التي هزت كيان ووجود البلاد.

ومثلما حملت بشائر نهاية تايلور بشرى نهاية الصراعات في ساحل العاج، فإنها قد استصحبت أيضاً بشرى كبيرة جداً بالنسبة للقارة بأسرها، وهي نهاية الحرب الأهلية والصراعات الدامية في واحد من أهم وأكبر وأكثر بلدان القارة ثروة مبددة ألا وهي الكنغو الديمقراطية، التي كان يحكمها الطاغية الراحل موبوتو ومن بعده كابيلا الثائر الذي استأثر بكل الحكم لنفسه إلى أن قتل وحل ابنه وريثاً للحكم منذ ثلاث سنوات تقريبا.

وأخيراً وعبر مجهودات افريقية متلاحقة، لعبت فيها جنوب افريقيا دوراً مقدراً، انطفأت حروب الكنغو الأهلية التي أوشكت أن تكون حرباً بين دول منطقة البحيرات بأسرها، فقد لعب كابيلا الابن الدور الذي كان مفترضا أن يلعبه والده، فقبل بتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية تشارك فيها كل الأطياف السياسية والمناطق المختلفة بأقدار ارتضاها الجميع، والمأمول أن تكون حكومة الوحدة الوطنية بداية النهاية لمأساة هذا البلد الهام والتي انعكست سلباً على كل الدول المحيطة به.

ويبدو أن كينيا مرشحة لأن تكون محطة إشعاع أمل خلال الأيام المقبلة لنهاية أقدم الحروب في القارة وأبشع النهايات التي أدت إلى زوال دولة افريقية من الخارطة لأكثر من عقد من الزمان. فقد أعلن قبل يومين استئناف الطيران الى الصومال، حاملاًً الإغاثات الدولية، والأهم من ذلك الإعلان عن تشكيل حكومة فدرالية لحكم الصومال، لمدى اربع سنوات انتقالية، وهذه المرة المرتجى أن تكون الحكومة المقبولة والقادرة على استعادة دولة الصومال التي افتقدها العالم منذ بداية العقد الماضي، حيث اصبح الصومال بؤراً متقطعة لحكم بارونات حروبه التي لم تتوقف أبداً.. ولعل ما يجعل دائرة الأمل متسعة وموصولة هذه المرة، هو أن الولايات المتحدة التي كانت قد أشاحت بوجهها عن الصومال بعد الاهتمام الكبير الذي كانت بذلته في عهد بوش الأب، قد استعادته الآن تحت رئاسة بوش الابن، بسبب حربه على الإرهاب وقناعة الولايات المتحدة أن كل بؤر الحروب الأهلية هي أماكن لتفريخ الإرهاب، فضلاً عن أن الصومال بالذات كان أحد معاقل «القاعدة»، وما تزال الشبهات تحاصر بعض قلاعه، كذلك القوات الأمريكية تراقبه، ولهذا فإن عودة الاهتمام العالمي بالصومال ربما يكون دافعاً قوياً لكي يسترد الصوماليون دولتهم ومكانتهم بعد أن هجرت أعداد كبيرة منهم ارض الوطن.

كذلك استؤنفت بالأمس في كينيا، جولة المفاوضات التي يفترض أن تكون الحاسمة بين الحكومة السودانية وحركة تحرير السودان التي يقودها جون قرنق، بعد أن تردد أن الوسطاء بلوروا أفكاراً توفيقية حول ما تبقى من نقاط خلاف بين الجانبين، وهي خلافات في أساسها حول قسمة السلطة وإن تدثرت بشعارات دينية من جانب الحكومة، أو قومية من جانب الحركة، إذ يبدو أن مسألة نيابة الرئيس لقرنق بما يعد شريكاً حقيقياً للبشير، قد حسمت، وأن مسألة الجيشين في طريقها للحسم عبر مجلس دفاع مشترك، وأن مسألة تفكيك حكومة الحزب الواحد بدت وشيكة، بدليل أن أحد أقطاب المفاوضات من جانب الحكومة وهو الدكتور أمين حسن عمر، صرح «أن نصيب الحكومة الحالية المشار إليه من اقتسام السلطة في برتكول مشاكوس للسلام، معنية به الحكومة وحزبها، وأرى أن مثل هذا الحديث قد يغضب بعض الحلفاء، لكن السياسة هي السياسة، وأن التحالفات الحالية هي تحالفات مرحلية».

ولا شك أن هذا التصريح يعكس مدى اهتمام النظام بحصته في الحكم أكثر من حرصه على أي شيء آخر، بما في ذلك الحلفاء الذين اصطفاهم للمشاركة مثل «الاخوان المسلمين، وأنصار السنة، أو الذين أغراهم بالانشقاق عن أحزابهم مثل مبارك المهدي (حزب الأمة)، والشريف الهندي (الاتحادي الديمقراطي)». بيد أن المسلسل لا يقف عند هذا الحد، بل يشمل الجنوبيين الذين تحالفوا مع الحكومة فإنهم بلا شك سيفقدون مواقعهم ايضا، لأن سلطة الجنوب ستؤول إلى جون قرنق وسيكون حالهم كحال الحلفاء المرحليين الذين ينتهي دورهم بتوقيع اتفاق السلام!.

ولهذا لم يكن مستغرباً وقوف الدكتور رياك قاي، رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية في احتفالات الذكرى الرابعة عشرة للانقاذ، ليقول: ان المجلس هو الممثل الشرعي الوحيد للجنوب، وان هناك العديد من القيادات والحركات الجنوبية ذات السند الشعبي أكثر من قرنق، وأية محاولة لتجاوزها ستعود بالأوضاع إلى الربع الأول.

في كل الأحوال طالما أخذ الجميع يفكرون بصوت مسموع حول مقاعدهم في السلطة، فإن هذا يعني أن السلام آت وأن الكراسي في حالة تأرجح، خاصة بالنسبة للذين يخشون فقدانها. وإذا تحقق السلام قبل الموعد الذي ضربته أمريكا، وهو الرابع عشر من الشهر القادم، فإن أطول حروب القارة تكون قد طويت. بجانب حرب جارتها الكنغو، ورحيل تايلور، وبداية التأسيس الجديد لدولة الصومال، مع استقرار اوضاع ساحل العاج، وكلها بشائر افريقية تتزامن مع انعقاد القمة الافريقية وزيارة بوش وما تستصحبه من اهتمامات للعب أدوار مهمة في القارة السمراء التي لو ترسخت هذه الخطوات المتسارعة في صحوتها، فإنها ستعبر إلى بر السلام بأسرع مما كان يتصوره اكثر الناس تفاؤلا.