واشنطن "المدينة القاسية"

TT

تعطي واشنطن زائرها انطباعا بأنه شخص مهم، ولكن الحكم النهائي هو ما تقوله واشنطن عندما يغادرها الزائر، انها مدينة شديدة القسوة في احكامها، يصعب فيها تغيير الانطباع الاول، خصوصا السيئ منه، فهي مدينة لا تحب التفاصيل او المقدمات الطويلة، وعلى الاخص المقدمات التي لا تدخل في سياق القصص الدائرة، ويخيب امل الزائر ان اراد ان يحكي حكاية جديدة، فشروط واشنطن الاولية هي ان تلتحم حكايتك بالحكايات السائدة في المدينة، تشاركها في الحبكة وكذلك في النسيج ولا تبتعد عنها في الموضوع.

اذكر زائرا جاء ليتحدث عن عدم فهم واشنطن للذاكرة التاريخية وخصوصية الثقافة العراقية، دخل في تفاصيل دقيقة واسترسل في القول وكأنه على مائدة عشاء في باريس، وظن باستعراضه لهذه التفاصيل انه يلقن مضيفه درساً مهماً في الثقافة السياسية العراقية، ولما تحدثت مع المتلقي قال لي ترى ماذا يظن صاحبنا بنفسه، اي يظن انه في قاعة محاضرات ام انه على عشاء في اجازة صيف في أحد المنتجعات الاوربية؟! ألا يعرف ان الامر هو مسألة امنية تتطلب حلا آنيا لا محاضرة؟!

واشنطن لا تختلف كثيرا عن حالة الاثرياء الذين يلتقون كل يوم بعشرات من زائريهم الذين يعرضون عليهم مئات المشاريع الوهمية، طالبين منهم تمويلها، وغالبا ما يظن اصحاب هذه المشاريع الوهمية ان عقلهم تفتق عن مشروع عبقري سيجعل هذا الثري سائل اللعاب يعطيه ما يريد من تمويل، والحقيقة هي ان صاحبنا الثري، سمع هذا المشروع ربما من الرجل الذي ترك البيت لتوه، هذا ان لم يكن سمعه بصور مختلفة وربما افضل حبكة منذ عام مضى، وربما اشفاقا على حال النصاب قد يعده الثرى بدراسة الموضوع او اعطائه قليلا من النقود بهدف تسريحه لا من باب اقتناعه بالشراكة في مشروعه البائس، ويترك صاحبنا دار الثرى ظانا انه "ضحك عليه وأوقعه في الشرك" ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما.

هكذا ايضا واشنطن، تبدو ساذجة وبسيطة، ولكنها مدينة ماكرة وقاسية، ان خدعتها مرة، تكون فرصتك في كسب صداقتها حقا نادرة.

خلال سنوات طويلة في هذا البلد قابلت الكثيرين ممن ظنوا انهم يتشاطرون على هذه المدينة، يحكون لبعض اصدقائهم انهم خدعوها وانها ايضا وقعت في حبائلهم، وحظ هؤلاء الجيد هو انهم لا يعرفون ما يقال عنهم في الغرف المغلقة، فيما يسمى بالتقارير غير المسموحة بالنشر (off the record meeting) ، ولو عرفوا ذلك لما عادوا الى هذه المدينة مرة اخرى، لو عرفوا احكام المدينة القاسية لطلقوها تماما.

واشنطن اقرب الى بائعات الهوى المحترفات، تعطي مواعيد غرامية كثيرة، وينتظرها الكثيرون على ناصية الشارع، وقلما تجيئ، كذلك هي مدينة غير محبة وغير صدوقة، لذا يشتهر قول هنا مفاده "ان اردت صديقا في واشنطن فلتقتن كلبا". وكان الرئيس كلينتون مولعا بهذه المقولة.

فان كانت واشنطن قاسية على الامريكيين من النخبة الحاكمة على غرار كلينتون، ترى كيف ستكون مع زوارها الغرباء.

كثيرون من جماعتنا يزورون واشنطن او يعملون بها، ولقلة خبرتهم في التعامل مع بائعات الهوى يظنون ان المدينة وقعت في حبائلهم، ولا يدرون انها ارسلتهم في مطاردة وزة برية (goose chase)، هذا بالطبع لا ينفي ان المدينة تقع في حب رجال تركوا فيها وعليها بصمة، وهم قلة نادرة، من عالمنا العربي استطيع ان احصي ثلاثة اسماء فقط لا داعي لذكرها، تركوا بصمات او ما زالوا، وذلك لاستخدامهم ادواتهم بمهارة ومعرفتهم ببعض مفاتيح المدينة.

ومع ذلك يستطيع الكثيرون ممن يزورون واشنطن او يعملون بها ان يخلقوا انطباعا بانهم "جابوا الديب من ديله". واشنطن تتسامح مع هذا وتسمح به، تعطيك كل ما تريد من الصور، مع وزير الدفاع، ومع وزير الخارجية، وحتى مع رئيس الدولة، واشنطن مدينة بضاعتها الصور واكثر ما تعطي الزائر هي حقيبة ممتلئة بالصور، ولكنها لا تسمح لك بأن تعوز ولو بأصل واحد الا ان اصبحت من اهل الدار وأهل الثقة، وهؤلاء كما ذكرت ثلاثة لا اكثر. لا ضير في ذلك ان كانت مهمتك كدبلوماسي ان تخلق انطباعا وتترك اثرا في دولتك القادم منها دونما ترك اثر يذكر في شوارع واشنطن او في ردهات السلطة والقوة فيها.

وما اكثر الدبلوماسيين وخصوصا القادمين من العالم الثالث المغرمين بانتاج الصور ليس في صحافة واشنطن وانما في صحافة بلدهم، حيث تنحصر مهمتهم الدبلوماسية في إقامة موائد العشاء لكثيرين من الصحافيين الزائرين من بلادهم، مع حشد غفير من اصدقائهم من المهمشين، وقدامى وزارة الخارجية الذين تقاعدوا منذ اعوام، او مع صاحب شركة علاقات عامة، كان ممثلا لولاية اريزونا او نبراسكا في اوائل السبعينات.

وهناك كثيرون ممن تصلهم دعوات للعشاء في مقر إقامة السفير الفلاني، ولا يدري مرسل الرسالة بأن رسالته تقبع على مكتب سكرتيره الرجل الواشنطني المهم الى جانب دعوات كثيرة من سفارات وشركات وحفلات ترفيهية، وغالبا ما يصل الرد في اطار اعتذار رقيق، يقول ان السيناتور فلان مرتبط. واشنطن مدينة ذات حذاء واسع يصعب على من لديهم اقدام صغيرة ان يملأوا هذا الحذاء، يملأ حذاء واشنطن قادم لديه الرغبة والقدرة والادوات في تقديم شيء ما مقابل ان يحصل على شيء ما. اذ لا يوجد كما يقولون "غذاء مجاني" في هذه المدينة.

حكى لي احدهم قائلا "ما هي حكاية رأيكم المتواضع؟!" ولم ادر ما يرمي اليه، ثم استرسل في القول، فعرفت منه ان كثيرا من زواره العرب يترجمون حرفيا بداية مداخلاتهم حول قضية ما بعبارة "في رأيي المتواضع!"، قال الواشنطني "ان كان رأيه متواضعا لماذا يتكلم؟! ألم اقل لكم انها مدينة قاسية!".

في خاتمة ذات صلة، حكى لي صديق انه ذهب ليتناول العشاء في أحد من الفنادق في دولة عربية وطلب لحما "مديم رير" اي غير مطهي بشدة (او نصف سوى)، واتى اليه النادل بقطعة من اللحم متفحمة، ولما ذّكره بأنه طلب "مديم رير"، قال النادل للزبون انه من الافضل له ان يأكل اللحم مطهيا بشكل جيد، ولما رفض واختلفا، طلب الزبون مدير المطعم، ليقدم له شكواه ظانا ان "الزبون على حق دائما" كما يقولون، ولما اعترض على طريقة النادل في تقديم الطعام، رد عليه المدير، ليس باعتذار، وانما اخبره ان يكون رفيقا بالنادل ذلك لأنه (اي النادل) ابن احسن مقرئ للقرآن في المنطقة، ولم يجد صاحبنا اي ربط ما بين فشل النادل في تقديم الطلب وبين ان والد النادل هو احسن مقرئ.

هذه حكاية تشبه الى حد كبير ما يقوله بعض العرب عندما يأتون الى واشنطن، يكلمهم الامريكيون في مطالب محدودة، فيجئ الرد "نحن اصدقاء واشنطن"، ولا يرى الامريكي اي ترابط بين حكاية الصداقة وانجاز مهمة فنية على غرار ابن احسن مقرئ.