الثقافة الغائبة في إعلان القاهرة للمثقفين

TT

رغم ان مؤتمر المثقفين عقد في القاهرة تحت عنوان «نحو خطاب ثقافي جديد»، إلا ان البيان الختامي للمؤتمر الذي حضره 150 مثقفا عربيا، غابت عنه موضوعات الثقافة وحلت مكانها شعارات سياسية قديمة تسببت في انهيار ثقافتنا العربية، ومنها: حق الشعب الفلسطيني في تحرير الأرض واقامة الدولة، والتنديد باحتلال العراق، وضرورة الغاء الاوضاع العرفية التي تحاصر الحريات، وأهمية الارتقاء بالوعي الثقافي وانفتاحه على السياسة.

ان غالبية المشاكل التي يعاني منها مجتمعنا العربي بما في ذلك ظاهرة الارهاب هي نتاج انهيار القاعدة الثقافية التي تؤكد القاعدة الحضارية للأمة، وتغذي النقاء الروحي وتدعم القيم الانسانية لدى الافراد. وهناك ضرورة ملحة لاعادة النظر في الخطة الثقافية للبلاد العربية بعيدا عن السياسة. فغالبية الدول العربية موجودة الآن خارج خريطة التطور الحضاري العالمي بسبب ضعف المستوى الثقافي في هذه البلدان. وادراك هذه الازمة هو بداية الطريق للوصول الى حل لها. والحلول التي طرحت حتى الآن تزيد في الازمة ومنها ان غالبية المثقفين ترى ان انقاذ الثقافة يأتي عن طريق الدولة، وترى ضرورة انتظار حدوث تطور ديمقراطي في عالمنا العربي حتى تعود الثقافة الى الازدهار. فيما نشاط الدولة ـ على العكس ـ كان هو السبب الرئيسي وراء تخلف الثقافة العربية، وان ارتباط المثقف بالعمل السياسي جعله يتحول الى أداة اعلامية تدافع عن تفسيرات الحكومات، بدلا من قيامه هو بتفسير العالم. ونحن نشاهد الحقيقة المؤلمة تتم حلقاتها أمام أعيننا كل يوم، وليس في مقدورنا ايقاف هذه الكارثة أو منعها. فالأمة العربية تسير بخطى مؤكدة ـ وبكامل ارادتها ـ الى طريق البيات الشتوي، والخروج من التاريخ. ولا نستطيع القاء مسؤولية ما يحدث لنا على قوى خارجية، فليس الاستعمار ولا الصهيونية ولا التطبيع ولا العولمة مسؤولة عن انهيار الثقافة العربية، وانما المسؤول هو الأمة العربية نفسها، وأولئك الذين يصممون على اخضاع الفكر والابداع لسلطة السياسة. ففي عهد كانت فيه بلدان العرب تخضع لنفوذ الاستعمار الاوروبي، وسيطرة الاقطاع المحلي، ازدهرت الثقافة العربية الحديثة التي وللغرابة لم تبدأ في الضعف والانهيار إلا بعد تحرر بلادنا من الاستعمار، عندما تمت سيطرتنا على مقاليد الحكم في البلاد!

فإذا نظرنا الى الخريطة الثقافية للعالم العربي الآن ونحن في بداية الألف الثالثة للتاريخ الميلادي، لوجدنا صورة غير مشجعة على الاطلاق: انهيار السينما بحيث لم يبق منها سوى المهرجانات، ضعف المسرح الذي كان معملا لتفريخ الممثلين والمخرجين وكتاب السيناريو، تراجع فنون الموسيقى، عزف الكتاب عن الرواية والمسرحية والبحث، بحيث أصبح الشعر يمثل الغالبية العظمى من انتاجنا الأدبي. وفي وقت صارت العلوم والتكنولوجيا مفتاح التقدم في المرحلة القادمة للحضارة البشرية، فليس لدينا بحوث أو دراسات علمية تذكر سواء في مجالات العلوم الانسانية او الطبيعية، بل ان مكتبة الاسكندرية الجديدة، خلت من كتب العلوم الطبيعية الفيزيائية واكتفت باقتناء كتب الدراسات الانسانية.

وبدلا من مواجهة مشاكلنا الثقافية بصراحة وموضوعية لنتغلب عليها، لتفادي أي فكر نقدي ونكتفي بمدح أنفسنا والتصفيق لاخطائنا، وحتى يخفي مفكرونا مسؤوليتهم عن مظاهر التخلف الثقافي اتهموا عدداً وهمياً اطلقوا عليه اسم «العولمة». فبعد انهيار النظام السوفياتي وسقوط الاشتراكية امام اقتصاد السوق الحر الى جانب النمو الهائل الذي حدث في وسائل الاتصال، أصبح هناك نظام عالمي موحد لحركة البضائع والمعلومات بين الدول. ومع ان هذا النظام ذو طبيعة اقتصادية وسياسية في الدرجة الاولى، إلا ان مفكرينا ادخلونا في بيت جحا باصرارهم على ان الخطر الرئيسي الذي تتعرض له ثقافتنا هو اميركا والنظام العالمي الجديد. والحقيقة ان الخطر الرئيسي هو انعدام الرؤية الحضارية وفقدان الهوية.

إن سيطرة الاجهزة الحكومية على انشطة التعليم الجامعي والثقافة هو السبب الرئيسي وراء تخلف الفكر في بلادنا. فبلداننا العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم الآن، التي لا تزال الأجهزة الثقافية فيها تدار بواسطة وزارات حكومية: نشر الكتب والمجلات الثقافية، المكتبات، الفرق المسرحية ودور العرض المسرحي والسينمائي، المهرجانات الفنية، قصور الثقافة في الاقاليم والمتاحف الاثرية والمعارض الفنية والمواقع الاثرية والبحث عن الآثار وصيانتها. وهذه الاجهزة في البلدان الأخرى موزعة بين شركات القطاع الخاص ـ مثل النشر والمسرح والسينما والمعارض والمهرجانات الفنية ـ او الهيئات الاكاديمية المتخصصة بالنسبة للمتاحف والمكتبات واعمال البحث والصيانة الاثرية. والحل هو «خصخصة» الثقافة واستقلال الجامعات والمتاحف والمكتبات، فمن الضروري خصخصة هيئة الكتاب والفرق المسرحية وصالات العرض السينمائي والمعارض الفنية، ويكون تدخل الحكومة عن طريق منح معونات لهذه الاجهزة. نحن الآن في مرحلة الخصخصة وقد حان الوقت كي يساهم رجال الاعمال والأثرياء في بناء نظام جديد للتعليم والثقافة، ففي قصور الأمراء والأثرياء ازدهرت ثقافات العالم القديم، ونحن ننظر الى اثريائنا للقيام بدورهم بعيدا عن السياسة وعن الحكومات، ففي أميركا واوروبا ينفق رجال الاعمال والأثرياء ببذخ على الانتاج الثقافي والبحث العلمي، وهم الذين يحتضنون المواهب الجديدة، كما فعل الباشاوات والأمراء في تاريخنا القديم. بعيدا عن السياسة والاعلام، يعيد الشباب بناء القاعدة الثقافية للمجتمع العربي الحديث.