لقطة عامة لصورة الذات المشوهة

TT

من نافل القول; القول إن العقل العربي من حيث المعطى الطبيعي قادر، كغيره من عقول الأقوام الأخرى، على التفكير العقلاني والابتكار العلمي والتخيل الإبداعي الخلاق، وعلى نحو متفوق، في حالات كثيرة، كما تتجلى في العقول العلمية لعشرات ألوف العرب المهاجرين إلى منافي الغرب طلبا لحرية التفكير والعيش الكريم، كما توجد ملايين العقول العلمية والفكرية والمهنية التي تعاني، داخل بلدانها، من البيروقراطية والبطالة (العارية والمقنعة) والإقصاء واختناق حرية البحث الفكري والعلمي...!

لكن الحديث يدور هنا عن صورة الذات الجمعية المشوهة إلى حد الفزع منها عند النظر في ما تنطوي عليه من حمولة تاريخ انحطاط ألفي في كهف الظلمات، كهف الذات الجمعية، بعدما جرى (تدريجيا) على مدى القرون الذهبية للحضارة العربية/الإسلامية، من القرن السابع إلى الثالث عشر الميلاديين، خنق ضوء الاجتهاد واعتقال العقل واغتيال الإبداع ، ليستتب (تدريجيا) منطق الإجماع والنقل والاتباع، ولتتناسخ المصادرات والمسلّمات، ولتطفح لغة السجع والمحسنات، وفلسفة التنجيم والاحجبة، برعاية بطريركات ثقافة الجمود على الموجود واقتصاد الخراج والريع وميكافيلية شعرة معاوية وسيف الحجاج...!

أتحدث عن الذات العربية النائمة مع أهل الكهف المتبطلين في الأسطورة، الذين عبرتهم القرون وتبدلات وجوه السلاطين على العملات، والثورات، والاكتشافات العلمية الكبرى والإمبراطوريات التي تسقط والتي تنهض، والأفكار التي تنفي الأفكار، الأفكار وهي تطرح أفكارا، فتنهض أمم في العقل بالعقل، تذهب في العلم بالعلم، فيما تراكم الخرافة خرافاتها في الأذهان والأعيان!

وكان أن دك فرنجة (الثورة الفرنسية) الكهف بقوة رعب المدفع وصدمة معرفة المطبعة، لتتفتت صخرة الكوة، وينبح الكلب. فيستيقظ نيام القرون، حامين أبصارهم بأكفهم من شدة سطوع العقل العلمي للعصر الحديث..!

إن «الفرنجي» لم يغادرنا (وان تحررنا منه عسكريا) بل داخَلنا في أدق تفاصيل وجودنا، بالمعني المعرفي (الايبستمولوجي)، نقلنا من الكتاتيب وألواح الطين والفلقة، لندخل في عصر المدرسة والكراريس والسبورة والطباشير لكننا أخذنا الفلقة معنا!! لم نكن قبله نعرف ما الرياضيات والإحصاء وحساب المفاضلة والتكامل والميكانيكا والفيزياء والكيمياء (وليست الخيمياء السحرية!)، ولم نكن نعرف ما الجريدة والدستور والعلم والنشيد الوطني والبرلمان والدراجة والسيارة والطائرة والآيس كريم..!

وإن عرفنا كل ذلك وأزيد منه بكثير; فقد تغاضينا (لأسباب من التعقيد تصعب على التدقيق في مقال عابر) عن تغيير ما بأنفسنا، فسمحنا لمن هم منّا وفينا ان يعيدوا إنتاج الاستعمار الخارجي في صيغة استعمار داخلي...!

أليس صدام (وأشباهه) مثالا فاقع الدلالة على وحشية الاستعمار الداخلي(المحلي) إلى درجة يعود فيه الاستعمار الخارجي القديم في دور «المخلِّص الملائكي»، مرددا ان صدام «المسلم» قتل من المسلمين في العراق وايران والكويت أكثر مما قتل الاستعمار الغربي منذ نابليون...!

لا شك أننا خضنا معارك مفصلية في إثبات وجودنا في العصر. قاتلنا المستعمر بضراوة أسطورية في الجزائر وليبيا كما في لبنان واليوم في فلسطين، ولربما غدا في العراق..!

خضنا معركة التنوير من إصلاحية رفاعة الطهطاوي إلى ايبستمولوجية محمد اركون..! ومن علمانية شبلي الشميل الاشتراكية إلى علمانية عزيز العظمة الديموقراطية..!

لكن ظل ويظل ينقصنا الشيء المفقود منذ ألف عام وعام: أننا خرجنا من الكهف دون ان ننسفه في عقولنا، إذ حملناه في دخلنا، خيالا خرافيا وخمولا فكريا وعطالة عن التفكير النقدي الخلاق!

لدينا الملايين من الأميين، والملايين من المتعلمين، لكن الأمية الثقافية طاغية، بمعنى العجز عن الوعي بأسئلة العصر، وليس بمعني معرفة الإجابة عن الأسئلة، من نوع، على سبيل المثال، من أخترع التلفون؟! وانما بمعنى معرفة ابتكار الأسئلة! أي الاستجابة لروح الاختراع وليس الإجابة عمن هو صاحب الاختراع؟! وذلك لن يتأتى قبل الخلوص (عقلانيا) إلى ان كل ما فات فات وكل ما هو آت آت، وان العمامة لا تصنع الإمامة، كما لا يصنع السلف الخلف..!

وان الدولة لم تعد برسم مقدمة ابن خلدون وانما هي تطبيق عملي لفكرة إقامة المواطن في المواطَنة، وان لا معنى للوطن ما لم يمتلك فيه المواطن حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة..!