دوامة مولوتوف العربي

TT

حين اعتقل ستالين زوجة وزير خارجيته مولوتوف كان الاخير يلتقي الزعيم يوميا لكنه لم يجرؤ مرة واحدة على السؤال عن زوجته. ففي ظل الانظمة الاستبدادية يعلمك الخوف ان تنسى امك وابنك وزوجتك وتتحسس رقبتك كل صباح لتتأكد من انها ما تزال في موضعها.

وان شئت ان تقرأ عن دوامة مولوتوف العربي وعن حجم خوف الانسان وانسحاقه امام السلطة فعليك بكتاب بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي (جدار بين ظلمتين) الصادر حديثا عن دار الساقي، ففيه ما يجعلك

تحمد الله مليون مرة على الاقل لانك لم تكن سجينا في ـ ابو غريب ـ حيث يحسد الانسان الفئران في صراعها مع القطط على تلك اللحظة الماسية النادرة التي تتيح للفأر ان يهرب اثناء تلذذ القط بتعذيبه قبل افتراسه.

مع السلطة تلك الفرصة غير متاحة الا اذا كان حظك "يفلق الصخر" ولا بد ان رفعة الجادرجي كان محظوظا مرتين ليكون ابن كامل الجادرجي اولا وليتخلص من حكم بالمؤبد في عز سطوة الزعيم الملهم بالمصائب الذي احال العراق كله الى سجن كبير.

لقد تعجبت مسرحية اسمها (الحمام لا يحب الفودكا) نشرها بشجاعة نادرة نبيل سليمان في دمشق في ذات الفترة التي كان فيها الجادرجي سجينا في بغداد، اقول تعجبت على لسان سجين سياسي من تعب السلطات الاستبدادية ومصروفاتها الفائقة على بناء السجون في حين انها تستطيع ان تسور البلد كله باسلاك شائكة وتكتب عليه عند بوابات الحدود الاسم الذي يعجبها لذلك المعتقل الجماعي، فحياة من هم خارج الزنازين ليست افضل من حياة من هم داخلها في بلاد الخوف فيها سيد الموقف وسحق كرامة الانسان ومصادرة حريته سياسة رسمية.

وقد لعب المؤلفان بلقيس ورفعة على ذات الثنائية المرتبطة بدوامة الخوف المزدوج، فكتب هو عن المعاناة داخل زنازين المخابرات وسجن ابو غريب وكتبت هي بالتناوب عن معاناتها من الطرف الاخر للجدار فاكتشفنا ما كنا نعرفه ونريد تأكيده بالتجربة وهو ان المعاناة واحدة على طرفي جدار الخوف والظلمة.

والجميل في الكتاب المشترك للسجين السابق وزوجته انهما يكتبانه ليس للفضفضة وتسجيل المواقف فحسب بل للمطالبة بترسيخ مرجعيات للفكر السياسي العراقي تعود اليها الاجيال لتطوير مجتمعها المدني. فإهانة الفرد وسحقه نفسيا لا تأتي من السلطة وحدها بل من كافة فئات المجتمع التي تتعاون من خوفها في التنفيذ التلقائي لكل اهداف السلطات المستبدة فالانسان في ذلك المجتمع ـ والكلام للجادرجي ـ معرض للاهانة في مختلف مجالات المعيشة بما في ذلك المصارف والاسواق والمدرسة والجامعة والقضاء الذي يفترض بمؤسساته ان تحقق العدل فاذا هي اول من يظلم، والاصح ثاني من يظلم حتى لا نسرق ذلك الدور المتقدم من الاجهزة الموكلة ببث الذعر في اوصال الجميع في الداخل والخارج.

لقد خرج الجادرجي السجين المحظوظ من حكم مؤبد حين استعد العراق لاستضافة قمة عدم الانحياز في الثمانينات وحينها بحث الرئيس المخلوع عن المعماريين العراقيين لتزيين وجه بغداد فقيل له ـ واحد بره وواحد جوه ـ يقصدون رفعة الجادرجي بالسجن ومحمد مكية بالمنفى.

وخرج الذي جوه وجاء الذي بره واستقبلت العاصمة العراقية رؤساء العالم باحسن حلتها ثم اصبح المعماريان الاثنان بره فما حاجة البلاد للمعماريين في ظل سياسات الهدم والتدمير.

وخطر لي ان اسأل اثناء مطالعة ذلك الكتاب الحزين: لماذا تأخر اصداره كل هذه السنين طالما ان السجين حصل على حريته وهاجر قبل سنين طويلة؟

وتطلعت فوجدت اخبار المقابر الجماعية في كل مكان وفي هكذا حالة يأتيك الجواب قبل ان تطرح السؤال فالخوف لا يتلبس الانسان في الزنزانة الصغيرة ـ السجن ـ ولا في الزنزانة الكبيرة ـ الوطن ـ لكنه يلحق به الى المنفى ثم يصاحبه الى القبر.